بقلم الدكتور لويس حبيقة
انعقد مؤتمر دافوس هذه السنة في الربيع أي في الطقس المشمس بدل الاجتماع التقليدي في بداية السنة في الجليد السويسري. كان موضوع الاجتماع البحث في أسباب وخصائص تعثر العولمة وكيف يمكن تخفيف الخسائر وربما العودة اليها تدريجيا مع الاصلاحات المطلوبة؟ مجتمعو داعوس هم عموما أرباب العولمة والمسوقون لها أي رؤساء الشركات الكبرى ومسؤولو الدول الصناعية كما العديد من مسؤولي الدول النامية والناشئة. تعني العولمة حرية التبادل التجاري وانتقال رؤوس الأمول بين الدول كما الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تؤسس للمشاريع الكبيرة وتخفف من حجم البطالة دوليا. عندما يتكلم مؤسسو العولمة عن تعثرها، هذا يعني أن المشكلة كبيرة وربما مفاجئة بحجمها وعمقها وامتدادها.
تعثرت العولمة ليس بسبب المبادئ التي بنيت عليها وانما خاصة بسبب العديد من الأمور غير الاقتصادية التي أضافت الى المشاكل الأساسية. في الماضي كان المشاركون في دافوس يطالبون الحكومات برفع ما تبقى من حواجز بينها، بينما يحصل العكس اليوم أي المطالبة بالعودة الى اقفال الحدود وان يكن جزئيا بسبب الأمن والمخاطر الاقتصادية والمالية. واقعا خرقت كل الحدود من قبل ملايين المهاجرين والنازحين الآتين من أوكرانيا ومن الدول العربية وأميركا اللاتينية للآمان وبناء مستقبل أفضل.
هل الركود قادم؟ هنالك وقائع تدعو الى الحذر وربما التشاؤم منها تعثر الاقتصادات الأساسية بينها الصين حيث ينخفض نموها من 8,1% في 2021 الى 4,3% هذه السنة، كما ينخفض نمو منطقة اليورو من 5,4% الى 2,5% بالاضافة الى وجود تضخم قوي يدفع الى رفع الفوائد لمحاربته.
لماذا تعثرت العولمة كي لا نقول فشلت منعا للمبالغات التي ترافق أحيانا تحليلات من هذا النوع؟ لقد تم بناء اقتصاد دولي من دون ضوابط أي أنشأ العالم سيارة سريعة تسير دون فرامل ومن دون اطار احتياطي يستعمل عند الحاجة. كان يعتقد بأن الطريق سليمة ولا مخاطر تعيق الانتقال من مرحلة الى أخرى، وان حصل ذلك فالعائق سيكون خفيفا وبالتالي يمكن تجاوزه بسهولة. لا بد هنا من التذكير بما كتبه "أدام سميث" بأن الاقتصاد الحر يؤدي الى حصول احتكارات في كافة أقسامه في غياب الضوابط والعوائق المانعة وهذا ما حصل. من الأمثلة الحديثة هي النقص المخيف في حليب الأطفال في الولايات المتحدة والذي نتج عن وجود شركة واحدة تنتج أكثر من نصف كميات الحليب. عندما أقفلت هذه الشركة بسبب عوامل الصحة والنظافة، تأثر العرض بشكل مفاجئ مما استدعى السرعة في الاستيراد. تعثرت العولمة للأسباب التالية:
أولا: الكورونا التي أقفلت العالم ومنعت الاجتماعات وعقدت النقل وخلقت مشاكل في سلاسل التوريد وأقفلت المطارات والمرافئ وبالتالي أثرت سلبا على كل المؤشرات الاقتصادية. حولت الكورونا الانفاق العام من التنمية الى الصحة تحديدا والاستشفاء خاصة لمواجهة هذا الوباء الخطير الذي يتجدد من وقت لآخر.
ثانيا: الحرب الأوكرانية المستمرة التي رفعت أسعار الغذاء والمحروقات والمعادن ووترت أجواء الاستثمارات مما دفع البنك الدولي الى تخفيض توقعاته بشأن النمو لهذه السنة. زادت أيضا ديون الدول الفقيرة المستوردة للسلع المعيشية المهمة مما سبب في اغراقها أكثر في ظلم الفقر. تبعا للبنك الدولي نسبة نمو الاقتصاد العالمي كانت 5,7% السنة الماضية ومن المتوقع أن تكون 2,9% هذه السنة. كل المناطق ستواجه انخفاضا في نموها بين السنتين المذكورتين باستثناء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي سيرتفع نموها من 3,4% في 2021 الى 5,3% هذه السنة. نمو المملكة العربية السعودية سيرتفع من 3,2% في 2021 الى متوقع 7% في 2022 بسبب ارتفاع أسعار النفط كما بسبب السياسات التي تنوع ركائز الاقتصاد. أكثرية الدراسات الحالية تشير الى ارتفاع مستمر في أسعار النفط نتيجة تعثر العرض بسبب الانتاج والنقل بالرغم من تنوع الطلب على الطاقة.
ثالثا: أنظمة حماية الملكية الفكرية التي لها ايجابيات ضخمة في زمن البحبوحة، لكنها تؤثر سلبا في زمن التعثر والفقر. حماية ملكية انتاج اللقاحات حرم الدول النامية وحتى الناشئة من تلقيح أكثرية السكان وسمحت للشركات المنتجة بتحقيق أرباح ايضافية ضخمة. فقط 14% من سكان الدول النامية ملقحين كليا ضد الكورونا، وهذا أدنى بكثير من المستويات الصحية والانسانية المطلوبة.
رابعا: هنالك وقائع مستمرة غير مرتبطة تحديدا بالظروف الحالية وتؤثر على نمو الاقتصاد العالمي وحيوية الأسواق، منها ارتفاع نسب المسنين في كل الدول وبالتالي انخفاض نسب القوة العاملة. هنالك انخفاض في نسب نمو الانتاجية بسبب تطور الثقافات ومتطلبات الحياة النوعية التي تؤثر سلبا على النمو. هنالك عوائق سياسية وأمنية وقانونية داخل الدول النامية والناشئة تمنعها عمليا من تحقيق كل طاقاتها الانتاجية. هنالك تعثر في نمو قطاعات التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي التي تعتمد أصلا على التواصل والبحوث المباشرة والتمويل والتي تعثرت جميعها بسبب الظروف الدولية المعروفة. لا بد من الأمل من أن يستمر الانتقال دوليا من الاقتصاد الملوث الى الأخضر حماية لمستقبل الانسان.
العالم أجمع بسبب التجارب والخبرات السابقة مؤهل أكثر من أي وقت مضى لمواجهة التحديات المذكورة. المؤسسات المالية الدولية هي اليوم أقوى وبالتالي لها الموارد المالية والبشرية الكافية لمعالجة التحديات. هنالك مشاكل ايضافية تحصل بسبب المناخ كالفياضنات والأوبئة والجفاف والتي تؤثر كلها على الثقة الدولية وتوتر الأجواء الاستثمارية العالمية. يقترح البنك الدولي على كل الحكومات أن تنفق أكثر في الاقتصاد حماية للفقراء من تحديات الحياة الاقتصادية والطبيعية حتى لو ارتفع مؤقتا الدين العام. يمكن للمعالجات المالية أن تأتي لاحقا مع التعافي العام وبعده.
ضمن هذه الأجواء الدولية الرمادية، يأتي من يفكر ايجابا في المستقبل. "ايلون ماسك" يفكر في ارسال مليون شخص الى المريخ قبل 2050 لضم الكوكب اقتصاديا الى الأرض. فهل ينجح؟ طبعا مليون شخص لا يكفي لتحقيق اقتصاد فاعل بسبب تنوع الانتاج المطلوب واختلاف المناخات والموارد الموجودة في المريخ. في رأي "بول كروغمان" لا بد من ارسال مئة مليون شخص بحيث يتحقق هذا التنوع على الكوكب. هنا تكمن مشكلة تكلفة نقلهم الباهظة كما الضرورة في ترغيب هذا العدد للذهاب الى الكوكب الآخر. لا بد من تحقيق وفورات الحجم في المريخ تماما كما على الأرض اذ من المستحيل لأي مجموعة أن تنتج كل شيء. ربما يمكننا انقاذ العولمة اذا أحسن العالم استعمال المريخ لتحقيق تبادل تجاري ومالي واستثماري كبير بين الكوكبين وبالاتجاهين مع الوقت.
Comments