بقلم الدكتور لويس حبيقة
هنالك دلائل عديدة عالمية تشير الى انتعاش الشعبوية، منها انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة كما خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو البركسيت كما الانتعاش الشعبي لليمين المتطرف في فرنسا أي النسبة المرتفعة التي حصلت عليها "مارين لوبن" في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية. تعكس الشعبوية استياء الناس من الطبقة السياسية فتنتفض ضدها، وهي ليست حركة جديدة بل قديمة متجددة. تتحرك الشعبوية في ظروف معروفة وهي سؤ الاستقرار الاقتصادي، التعدي على الهوية والخصائص الوطنية، وجود نظام سياسي مهترئ لا يتجاوب مع المطالب الشعبية، وجود مؤسسات عامة تحتاج الى اصلاح كي تؤدي المهمات المتوجبة عليها وغيرها. هنالك شعبويات جديدة مبنية على التكلفة كما على الفعالية كتلك التي تعارض التلقيح في وجه الكورونا كما تلك التي ترفض السياسات العامة الخضراء أي المراعية للبيئة. يمكن طبعا مواجهة الشعبوية أو التخفيف من حدتها عبر اصلاحات سياسية واقتصادية تراعي مطالب المتضررين أو المحرومين أو الفقراء. لا تتمدد الشعبوية في ظروف اقتصادية مريحة أو مزدهرة.
يمكن وصف الشعبوية بالحركة السياسية التي تواجه الحكام والطبقة السياسية وخاصة النخبة الحاكمة أو ذات النفوذ الكبير. عموما ترغب الشعبوية بفرض الهيبة أو السلطة القوية لمواجهة من يتعدون على الهوية الوطنية أو العرقية أو الدينية. تظهر هذه الحركات عداء واضحا معلنا للمهاجرين أو اللاجئين أو المتجنسين ويتكلون على السكان الأصليين أي خاصة من ولد في بلادهم لمواجهة الآخرين. هذا الشعور واضح في حركة ترامب حيث شعبيته تقتصر خاصة على مجموعة عرقية أقلية تستفيد من انقسام الأكثرية المتنوعة التي في وجهها. معركة "لو بن" الأب واليوم الابنة واضحة في مواجهتها للعرقيات والأديان المختلفة، علما أنها عدلت من بعض نقاطها المتطرفة محاولة النجاح الانتخابي. الفارق الكبير في الأصوات بينها وبين الرئيس ماكرون يدل على أن محاولاتها نجحت جزئيا فقط.
عندما يكون دخل أكثرية المواطنين أقل من المعدل العام للدخل، من الممكن بسهولة وعبر انتخابات حرة تغيير النظام القائم حتى الوصول الى المصادرات أي وضع اليد على الثروات أو دخل الأقلية الغنية. هذا ما حصل في دول عدة، منها عربية وأميركية لاتينية، عبر أنظمة التأميم أو الاصلاحات الزراعية التي فشلت في معظمها لكنها كانت تجاوبا سياسيا مع الغضب الشعبي الكبير.
هنالك أنظمة ترتكز على مبادئ تؤدي حكما الى توسيع الفجوات الداخلية مقارنة بغيرها، وبالتالي تحدث قلقا عند المواطنين. النظام الاقتصادي الأميركي الذي ميز تفوق أميركا الاقتصادي على مدى قرون يرتكز على النجاح الفردي والمؤسساتي المتجدد والمبتكر والخلاق من خلال العمل أو الاستثمارات. المجتمع الأميركي ينوه ويعزز الناجحين والمتفوقين، وهذا جيد لكنه في نفس الوقت يؤدي الى توسع فجوات الدخل والثروة داخليا.
يرتكز المجتمع الاقتصادي الأميركي على المغامرة المدروسة في الاستثمارات والأعمال، وبالتالي ينوه بالشركات الكبرى وبالأغنياء الكبار من "ايلون ماسك" و"ستيف جوبز" و"جيف بيزوس" وغيرهم. المجتمع الأميركي معجب بالأغنياء وبالناجحين والمتفوقين وبالتالي الأرضية العملية جاهزة لتوسع الفجوات الداخلية. تكلفة النجاح أو التقييم الكبير المحق للنجاح هي اتساع الفجوات الى حدود يمكن أن تكون مضرة وخطرة. على عكس العقلية الأوروبية، دور الدولة في تخفيف الفجوات خفيف جدا في الولايات المتحدة وبالتالي يترك الفقير من دون مساعدات أو اهتمامات كافية. لكل من النظامين العريضين مزايا ومساوئ واضحة تؤدي الى نجاحات في مهمات وفشل في أخرى.
يقول الكاتب السياسي "نيل فرغسون" أن هنالك 6 عوامل تميز المجتمعات الغربية وهي المنافسة، العلوم، الديموقراطية، الطب، الاستهلاك والأخلاق في العمل. الحفاظ على الغرب كنهج ثقافي وحضاري يرتكز على تعزيز المزايا الست المذكورة. يقول أيضا أن استمرار الديموقراطيات حية يرتكز على تنفيذ سياسات تحارب سؤ توزع الدخل. يقول "منصور أولسون" أن الصراع الداخلي العنيف كما العداء الخارجي يمكن أن يدمرا الديموقراطية. لا شك أن العولمة القوية ساهمت في تقوية الشعبويات كردة فعل لتوسع فجوتي الدخل والثروة. هنالك شعبويات يمينية كما كان كان حال "موسولينيي" في ايطاليا خلال الحرب العالمية الثانية وكما يحدث في أوروبا اليوم أي مثلا في المجر وفرنسا. هنالك شعبويات يسارية كما كان حال "ستالين" في الاتحاد السوفياتي السابق وفي عدة دول أميركية لاتينية على مدى الزمن منها فنزويلا. هنالك تشابه كبير في النظريات والأهداف وحتى الوسائل بين المجموعتين. فالهوية السياسية ثانوية مقارنة بالأهداف العرقية الكبرى التي تؤثر على مبادئ وتصرفات الشعبويين.
ما هي هذه الاصلاحات الممكنة التي تعطي النتيجة المطلوبة في معالجة الشعبوية؟
أولا: من الضروري تحفيز النمو الاقتصادي الذي وحده يواجه الفقر والبطالة ويفتح المجال أمام عمل الشباب كما يعزز فرص نجاحهم المستقبلي. التقنيات معروفة من سياسات مالية ونقدية واجتماعية منطقية وجدية لا تهدر الأموال وتمارس دوليا منذ عقود. المهم الاصلاح الفعلي للمؤسسات الدستورية كما الاجتماعية التي يجب أن تؤدي دورا كبيرا في التواصل بين السلطات والناس. المهم أيضا توزع هذا النمو على مختلف الطبقات الشعبية، اذ ان استفادة أقلية من الغنى الجديد يوسع الفجوات الداخلية ويؤثر سلبا على الاستقرارين السياسي والاقتصادي. هذا التوزع يجب أن يكون أيضا بين المناطق ولا يشمل فقط العاصمة والمدن الكبرى بل أيضا الريف وخاصة المناطق الفقيرة أو ما يسمى بأحزمة البؤس.
ثانيا: يجب تركيز الاهتمام على الخاسرين من النظام الاقتصادي القائم، أي النازحين والفقراء والعاطلين عن العمل واللاجئين بين المناطق حتى في قلب الدولة. المتضررون من النظام ليسوا بالضرورة مخطئين أو مسؤولين عما حصل لهم، وانما ضحايا لمجموعة عوامل تراكمت عبر الزمن وليست بالضرورة فقط داخلية المنشأ.
ثالثا: ليس كافيا معرفة الخسائر وتقييمها بل يجب ايجاد الحلول. من الاجراءات المتبعة وضع صناديق لتمويل الحاجات من الموازنات الوطنية أو من التبرعات الداخلية والدولية. يجب تأمين تعويضات للضحايا تتناسب مع معيشتهم، كما من الضروري تمويل حاجاتهم التعليمية والصحية والاجتماعية عبر الصناديق التي يجب ادارتها بشفافية ومهنية وفعالية.
أخيرا هنالك أسئلة من الصعب الايجابة عنها، مثلا لماذا من يعرف انه سيتضرر من حركة شعبوية معينة يقترع لها؟ هل يطغى الشعور العرقي على مصلحة المستقبل؟ في بريطانيا، صوت الملايين للبريكسيت ومنهم أعدادا كبيرة من الشابات والشبان الذين يعرفون أنهم سيتضررون من اقفال بريطانيا وخسارة أسواق العمل الأوروبية الواسعة؟ صوتوا للبريكسيت وهم يواجهون اليوم البطالة والمستقبل الأصعب.
Comments