د. خالد زغريت
إلى الأستاذ عرفان الأشقر
وأخيراً أضاء نجم غيابك، تُرى كيف لك أن تجمع أصداء كلماتك من جيوب الهواء في رئتينا، وجدران ثوانينا، وكيف لنا أن نمحو ملامحك من خارطة هجائنا وننسى عيونك وحيدة آخر الليل في قناديل الشوارع تحرس أحلامنا العارية، لا لنا ولا لك، لكن لنا أن نرفع رأس خيانتنا قليلاً ونعترف أننا نعمى كثيراً عن الذهب مهما لمع، ونبحث عن بريق ضوء عيون الذئاب في الغابة، كي نحفظ لخيانتها كرامتها في الكذب الذاتي، والزيف الاستراتيجي لأنانيتنا.
لك أن ترحل نحيلاً أقصر من ألف أحنته شفاه الأطفال، وأطول من عكازة التاريخ، ولنا أن نعدك مدرسة أعدتنا شعباً درويشاً يتلهى بقضم أظافره عن إحصاء نجوم درب التبانة التي أنَّت من خطا الراحلين بصمت، ولك أن ترحل وحيداً نحيلاً كتاء ربطها النحاة ونسوا بأي أنثى تليق فبقينا نقرأ عما لا يأتي من برق انبثق في ضاد قحطان ومازالت طور سيناء تحكي كيف توكأ الكليم على عصا ذلك البرق.
ولنا لكي نبكي رحيلك أن نسأل عن أطلال تطيّرت من ضجيج مزامير سيارات الإسعاف فتنكرت، ولم نعثر لا لأياً ولا هوناً على رسم نتبيّنه، فرحنا نقول لظلالنا ألا عمي صباحاً دارنا، فوقفنا فيها وهماً نقضي حاجة المتلوم، لقد غادر الشعراء المتردم ليسألوا التاريخ كم ينسى وأين لك كرسي فيه، وأنت ما أنت عشت في الظل لا شمعة تضيء قامتك في الريح، فحُييت ممن لم يتكلم حين عزّت تحية المتكلّم، ولك مالنا أن نقف أمام مرآتنا فعيّت جواباً وأمامها أحد، ولك ألا تحكي لنا عن شعورك، وأن تجر أطراف شمسك عن حياتنا نحو الظل خفيفاً، هل تبكينا أم نبكيك؟؟؟
لكن ما لا تعرفه أن خطاك ما إن تصل إلى أبواب لغتنا حتى تفتح على بكاء لا يحد رثاؤه بقافيته، ولا يحمله حمام على جانح الهديل، ولك قبل أن تسحب ظلك عن بلاط مملكتنا في الكلام أن تسمي ما في وجوهنا من غابة أسئلة شائكة، لك أن ترحل الآن فقد زال النهار عن حلمنا وبقيت فيه كالسيف منفرداً، لكن وإن أوقدت نار غيابك في هشيم حضورنا أن تسأل عن جدار بقي ليسند صدى حروفك، فوداعاً..
وداعاً لمن يترك غيابه مقعداً لحضوره، وداعاً لرحيلنا إليك على ناقة بسوس الأحلام العرجاء، نرحل، ولكننا نعترف الآن أننا لا نقوى إلا أن نقول: وداعاً لغيابك
وطوبى للذي ينسى أن عرفان الأشقر أشعل أصابعه كواكب في ليل ضلالنا، ولم نمنح ضوءه اسمه، وطوبى للذي ينسى أن عرفان الأشقر أسند اللغة على ظهره ثلاثين عاماً وظهره إلى الحائط الساقط، وطوبى للذي ينسى أن أرباع المصنفين جردوا سواد حبرهم بعير من بوظة الأمير لأشباه الكتبة، ونسوا أن الكثير من الأكاديميين والبحاثة الحقيقيين لم يستغنوا عن كتبه وبحوثه، لكن طوبى لكتبة الأبراج الأدبية الذين نسوه لأنهم لا يعرفون لفظ أسماء بعض شعراء الجاهلية، وطوبى لمن يذكر أن عرفان الأشقر بقي ثلاثين عاماً مربياً لم تلوثه أضواء الشموع المزيفة.
لكن تلامذته يذكرون أنه كلما ضاقت السبل قالوا: الأستاذ عرفان، وطوبى للذي ينسى في حمأة الإشكالات اللغوية أن هناك موجهاً اختصاصياً للغة العربية نحيلاً نزقاً هو الموئل، وطوبى لنا لأننا ننسى، فلو لم ننس كيف لنا أن نتقبل أننا ننسى في حضوره أن نكبر.
فطوبى لعرفان عرفاننا بأننا سنظل نذكر أنه شجرة، ولنا حقّ في ظلها، وإن نسي كتبة السياحة أن يسموها، فهي من تربة هذا البلد الغالي تزينه لتحمد له نقاء مائه وأصالة هوائه الذي لا يخون أبناءه فيذكرهم ويذكر أن الكريم يُكَرِّم ولا يُكرَّم.
Comments