م. ميشال كلاغاصي
تركيا بين موسكو وواشنطن: سياسة الحبال المتعددة
عبر السنوات والعقود، لعبت تركيا عشرات الأدوار وعلى عشرات الحبال، وتأرجحت سياساتها ومواقفها بين موسكو وواشنطن، واستطاعت من خلالها تحقيق الكثير من المكاسب، لدرجة اعتقد فيها الرئيس إردوغان بأنها سياسة رابحة دائماً، وشارك القوتين الدوليتين الحرب والسلام والمهادنة والمفاوضات والوساطة، وحصد عدة نجاحات، وغاب عن ذهنه أن تركيا ذاتها تقبع وسط حقل ألغام ومصالح وحبّ وإنتقام كلا الطرفين، في وقتٍ لم تعد تتوفر فيه إمكانية استبعادها أو استثنائها من خرائط الصراعات الجيوسياسية في المنطقة والعالم، ومن كل ما يشير لوصول البلل إلى ذقنها، وسط مستنقع الحروب والصراعات والمؤامرات التي شاركت بها بفعالية كبيرة، على قاعدة طباخ السم ذائقه، خصوصاً مع تشعب مواقفها وطول أياديها في كافة ملفات الجوار القريب والبعيد، وتسببت بتعقيد الحلول، وباتت تطالب بجائزتها دون أن تدفع حصتها من التكاليف وضريبة الفوز أو الخسارة، خصوصاً في الملف السوري شديد التعقيد، حيث حاول بالأمس الرئيس ترامب في الأمم المتحدة توجيه سهام الإعتراف المباشر بما اقترفه إردوغان وحمله مسؤولية إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، رغم فشل محاولات أسلافه العثمانيين منذ 2000 عام في إبتلاعها بشكلٍ كامل وإسقاط الدولة السورية، ولم يتأتى لها - بحسب ترامب – تحقيق ما حققته اليوم تحت المظلة الأمريكية وسياساتها الخارجية وقوتها العسكرية ونفوذها الدولي.
إعادة صياغة المشروع الأميركي: تحولات استراتيجية
وعلى ما يبدو فقد قرر ترامب إعادة صياغة استراتيجيته الجديدة في سوريا والعراق وأوكرانيا وأوروبا وروسيا والصين، بشكل براغماتي مبني على النجاحات والإخفاقات والعراقيل التي واجهت المشروع الأمريكي حتى اليوم، وبات عليها المضي قدماً في جزئه الصعب، وعلى حساب كل من سبق وأطلق عليهم "حلفاء، شركاء، أصدقاء"، وأطلق استراتيجيته الجديدة بدءاً من تخليه عن الأوروبيين في مواجهة روسيا، وتطويق العرب بحبال الناتو العربي في غزة ومضاعفة تنازلاتهم واستسلام من تخلف منهم عن تقديم فروض الطاعة إلى "مارد المنطقة" وحاكمها القديم - الجديد القابع في تل أبيب، وكذلك عبر البدء بمحاصرة تركيا والرئيس إردوغان، ووضعه في موقف لا يحسد عليه، ومطالبته بالتوقف عن شراء الغاز والنفط الروسيين...
مأزق الطاقة والاقتصاد التركي
لا يمكن لتركيا وليس من مصلحتها أن تفعل ذلك ولن تفعل، إذ لم يراع ترامب البدائل التركية، ولم يأبه بالأضرار الإقتصادية التي ستنال من اقتصادها وتأثير انهياره على الشارع التركي المحتقن أصلاً بعشرات الملفات الداخلية، والتي تجعله يقترب شيئاً فشيئاً من حالة الانفجار، على الرغم من تقديم ترامب الولايات المتحدة كمصدر بديل على غرار ما فعله مع الأوروبيين.
خديعة أم مساومة؟
من الواضح أن ترامب يبحث عن رضوخ تركيا لمطلبه، الذي سينعكس بالنتيجة على ارتفاع أسعار الطاقة واستفادة الموردين الأمريكيين عوضاً عن تركيا التي تستفيد منه حالياً في الداخل ومن خلال بيع منتجات مصافيها من الغاز الروسي إلى الإتحاد الأوروبي.. ناهيك عن عدوانية هذا المطلب تجاه روسيا، واستغلال السلوك التركي الجديد المتوقع في أوكرانيا.
بداية التحول في العلاقات التركية الأميركية
يدرك ترامب استحالة موافقة تركيا، ومطلبه هذا لا يعدو سوى خديعة، تدفع تركيا نحو مساومة واشنطن وتقديم التنازلات من مخزون علاقاتها وأرجحتها للحفاظ على اقتصادها، كما يُعتبر مقدمة للسياسات الأمريكية الجديدة تجاه تركيا، والتي تستدعي نسف التعويل والإعتداد التركي على العلاقات والشراكة مع الولايات المتحدة التي يصفها الأتراك بـ "النموذجية"، ويبقى توقيت مطلب ترامب لافتاً في ظل وقوف أنقرة أمام مفترق طرق في خضم صراعاتها الداخلية المعقدة، ووسط توريداتها من الغاز والنفط الروسيين إلى عدة دول أوروبية تقدم لترامب الطاعة الكاملة.
طائرات إف-35: الجزرة المشروطة
يبدو أن ترامب يربط موافقة تركيا، بموافقته على بيعها طائرات إف-35 من خلال تصريحه: " نستطيع إبرام صفقة طائرات إف-35 مع تركيا، لكن على أردوغان أن يفعل شيئاً لأجلنا أولاً "، في وقتٍ لا يمكن لواشنطن تسليمها هكذا طائرات إلاّ في إطار الناتو وحدود إلتزامها بشروطه، وبشروط إضافية قاسية لمنعها من استخدامها خارجه، خصوصاً وأنها تعاند الرغبة والقوة الإسرائيلية الساعية لإخراجها عسكرياً من الأراضي السورية والعراقية، وأقله منعها من إقامة قواعد عسكرية، وتحجيم نفوذها العسكري على الأراضي السورية، والتي ترى فيها سلطات الكيان الإسرائيلي تهديداً لأمنها ووجودها.
أنقرة في ورطة… وترامب يضغط
تدرك تركيا مخاطر مطالب ترامب، وبأنها وقعت في أفخاخه وباتت في ورطة كبيرة، نتيجة محاصرة الرئيس إردوغان ووضعه في موقف لا يحسد عليه، ومطالبته بالتوقف عن شراء الغاز والنفط الروسيين.
الأمم المتحدة: منصة التحول الاستراتيجي
إن تغيير ترامب استراتيجيته أثناء وجوده في الأمم المتحدة، لم يكن مرتجلاً، وكان مدروساً ومسبق التحضير، وليس نتيجة حواراته ولقاءاته بـ إردوغان وزيلينسكي وقادة اّخرون على هامش المؤتمر الأممي.
من الدعوة للسلام إلى التحريض على الحرب
ويمكن ملاحظة نوعية خطاباته وتصريحاته في الفترة التي سبقت المؤتمر الأممي، حيث كان يدعو إلى الحل والسلام في أوكرانيا، لكنه تحول فجأة نحو دعوة زيلينسكي لإستعادة أراضي أوكرانيا بمساعدة أوروبا.
من الواضح أن تغيير موقفه المفاجئ تجاه أوكرانيا وسلوكيات الرئيس زيلينسكي، يعكس فشله في تحقيق أيّ انجاز أو إنتصار عبر المفاوضات، لذلك عاد إلى نغمة الضغوطات على روسيا وللحديث عن عدم امتنانه و"خيبة أمله في مواقف الرئيس بوتين"، وهذا بدوره يمنح الأوروبيين وكييف الضوء الأخضر للتصعيد وعرقلة الحل، ويفسر مضمون كلامه في الأمم المتحدة:" إذا تعذّر الاتفاق على وقف إطلاق النار والضمانات الغربية ونشر قواتٍ أوروبية، إذن لندع أوروبا تقاتل روسيا وتواصل دعمها لأوكرانيا، لكننا لا ننوي التدخل في ذلك".
هل تفكر تركيا برفض مطلب ترامب، ولذلك سارعت للحصول على توريداتٍ نفطية من كردستان العراق؟، وستحمل الأيام القادمة الخبر اليقين، لننتظر ونراقب.
* المهندس ميشال كلاغاصي هو كاتب ومحلل سياسي سوري، يُعرف بمقالاته التي تتناول القضايا الجيوسياسية، خاصةً تلك المتعلقة بالعلاقات الدولية، الصراعات الإقليمية، ودور القوى الكبرى في الشرق الأوسط. يكتب في عدد من المنصات العربية مثل بيروت تايمز، الميادين، وساحة التحرير.
تتميّز كتاباته بأسلوب تحليلي عميق، وغالبًا ما يربط بين الأحداث الراهنة والسياقات التاريخية، مع تركيز خاص على السياسات الأميركية والروسية، ودور تركيا وإسرائيل في المنطقة. كما يظهر في مقالاته اهتمام واضح بتفكيك الخطاب الإعلامي الغربي وتسليط الضوء على ما يعتبره ازدواجية المعايير الدولية.
Comments