الاستهلاك قرب المسافات

06/30/2019 - 22:34 PM

San Diego

 

بقلم الدكتور لويس حبيقة

يمكن وصف طريقة عيشنا في الدول ذات الدخل المتوسط وما فوق بالمعتمدة على الاستهلاك المتزايد لكافة السلع وحتى الخدمات.  ما زال النشاط الفردي عالميا يسيطر على نشاط المجموعات بسبب الرغبة في الربح والنجاح والعيش الأفضل.  هذا جيد اذا تمكنت المجتمعات من تسديد التكلفة دون عناء، أي اذا كان انتاج المجتمع كاف لشراء السلة الاستهلاكية.  هنالك مشكلة أخرى يمكن وصفها بصعوبة توافر كل ما يحتاج اليه الانسان في كل المجتمعات.  فالكميات تبقى دائما محدودة وبالتالي تنظيم الاستهلاك يعتمد على وجود شبكة أسعار تحدد الكميات المستهلكة.  من أهم مشاكل المجتمعات المستهلكة هي الأضرار البيئية التي تعي أهميتها كل الدول دون أن تتمكن دائما من حسن المعالجة بالتوقيت المناسب.  فمثلا معدن الألمينيوم المستهلك بكثرة في كل المجتمعات يتطلب انتاجه استعمال الكهرباء بكثرة مع ما يترافق من تأثير سلبي على البيئة.  منذ الستينات، زاد انتاج الألمنيوم 8 مرات لتلبية الطلب.

يبقى أن هنالك خصائص مهمة مشتركة للاستهلاك الحديث قرب المسافات بين الدول والشعوب وأعطى المستهلك قوة كبيرة من الصعب التغلب عليها.  تطور الاستهلاك في العقود الخمسة الأخيرة أكثر من أي وقت تبعا لما يلي:

أولا:  تغيرت أولويات الاستهلاك من الطلب الكبير على الغذاء الى الطلب الأساسي على وسائل الاتصال والتواصل بين الناس.  تغيرت بسبب تطور المجتمعات وتغير العقلية وانفتاح الانسان واطلاعه على كل ما يجري داخل دولته وخارجها.  أصبح الاطلاع أسهل بفضل تطور الاتصالات والاعلام وتوافرهما بتكلفة ضئيلة يستطيع تأمينها الفقير في أكثرية الدول.

ثانيا:  التطور التكنولوجي قلص الفروقات بين المواطنين من ناحية توافر وسائل الترفيه بدأ من الراديو الى التلفاز وآليات التسجيل والتصوير والهواتف الخليوية وغيرها.  كما أن أسعار السفر تدنت لتصبح بمتناول المواطن من ذوي الدخل المتوسط وما دون.  تقدم وكالات السفر عروض سفر واقامة بأسعار منخفضة ومدهشة في بعض الأحيان.  أما السيارات السياحية فأصبحت متوافرة بأشكال وأسعار لم تكن ممكنة في السنوات القليلة الماضية.  دخول الصين الى العالم الاستهلاكي الانتاجي غير الخريطة ووسعها باتجاهات مختلفة.  لا ننكر استمرار وجود فوارق كبرى في الدخل والثروة كما لا ننكر وجود الفقر في كل المجتمعات.  انما توافر السلع والخدمات الاستهلاكية كما لم يكن سابقا وحد الأحلام بين الأغنياء والفقراء بل قربها الى مستويات عميقة.  فالانسان عموما راغب بل قادر على تحسين ظروف معيشته عبر الاستهلاك والسفر وتبديل السلع والخدمات كل فترة تبعا للامكانيات والظروف.

ثالثا:  هنالك عامل مشترك للتطور الاستهلاكي وهو التأثير الأميركي في كل شيء من العلوم الى الأداب والترفيه والثقافة وغيرها.  للتأثير الأميركي الكبير والواسع سيئات منها السيطرة على الثقافات الأخرى والقضاء على بعضها كما من الحسنات انه قرب الثقافات والمفاهيم الثقافية بعضها من بعض أي كان توحيديا في جزء كبير منها.

لم تظهر هذه الخصائص بل قوتها أكثر من أسيا أي تحديدا في الصين والهند واليابان كما في كوريا الجنوبية.  أصبحت جميعها مجتمعات استهلاكية بدرجات مختلفة بعد ان كانت لعقود طويلة مجتمعات ادخارية بامتياز.  المعلوم عبر التاريخ أن محرك النمو في أسيا كانت الدولة وسياساتها، ولم تكن مشاركة القطاع الخاص الا خجولة.  دور وزارات الصناعة والتطور التكنولوجي في اليابان والصين مثلا كان كبيرا وفعالا وناجحا.  هذا ما يعرف بالسياسات الصناعية التي دعمت ووجهت وكان لها دورا رائدا في تحقيق النجاح الصناعي الأسيوي.  لم يعد ممكنا تطبيق هذه السياسات اليوم في ظل الاتفاقيات التجارية الاقليمية والدولية، لكن ترامب عبر سياساته التجارية يحاول اعادة بعضها الى الوجود كي "تعود أميركا عظمى مجددا".

في شرق أسيا، العلاقات الاجتماعية مهمة جدا وتوجه الاستهلاك.  المواطن يقلد المواطن الآخر في طريقة معيشته وهنالك ما يعرف بالحسد الايجابي أو الغيرة وهي محاولة نسخ استهلاك الغير أي الأغنى في العيش.  المجتمعات العربية تحتوي على هذه العقلية التي تعزز غيرة الانسان من غيره وبالتالي توجه طريقة استهلاكه والمحتوى.  الحسد الايجابي مفيد ويساعد على التقدم، أما الحسد السلبي فمدمر ولا يعطي النتائج المطلوبة.

ما هي السياسات الوطنية والدولية المشتركة التي سمحت للاستهلاك بأن يتطور ويزدهر ويقرب المسافات بين الشعوب؟

أولا:  توافر وسائل الاقراض للاستهلاك من المحال التجارية وخاصة من المصارف عبر الاقتراض المباشر أو بطاقات الائتمان المنتشرة بشكل منقطع النظير.  اشتر اليوم وادفع غدا مع جوائز وحوافز ونقاط، فمن يستطيع الصمود أمام جاذبية السلع والخدمات المدهشة؟  هنالك واقع هو أن الادخار في أميركا انخفض لأن الاقتراض أصبح أسهل ولا حاجة للمواطن للتوفير في المصارف.  تشير الاحصائيات الى أن الأميركيين ينفقون ثلث الدخل على استهلاك السلع المعمرة ومعظم الفارق على غير المعرة من غذاء وملابس وغيرها.  أصبحت الحياة أطول وأفضل ليس فقط للأميركيين وانما لمعظم البشر، علما أن الخدمات الطبية والتعليمية أصبحت متوافرة أكثر بفضل الاهتمام الداخلي والنشاطات الدولية غير الحكومية.

ثانيا:  تغيرت معالم الحياة وطرق الاستهلاك وأصبحت الأجيال كلها بما فيها الشباب واعية لمصالحها.  أذواق المواطن متغيرة بسرعة وبالتالي الاستهلاك أسرع ومتنوع أكثر.  نوعية الحياة وطرق الترفيه تغيرت كثيرا وتتأثر بما يعرض عليها بل توجه أحيانا هذه التغيرات.  تتأثر الأجيال كثيرا ببعضها البعض وتؤثر على تطور الأسواق بحيث يعجز المواطن أحيانا عن مقارنة السعر والنوعية ويشتري ما يراه أو ما يعرض عليه.

ثالثا:  أصبح المواطن اليوم أوعى تجاه النوعية ومنها صلاحية السلعة الغذائية خاصة.  تداخلت المصالح الاستهلاكية بالأخلاق اذ لم يعد مقبولا الغش بل يعاقب في القوانين.  جميع الدول وضعت أجهزة لمراقبة نوعية الغذاء والأدوية وكافة السلع والخمات.  ترابط الاستهلاك بالأخلاق أصبح أقوى من أي وقت مضى.

رابعا:  دخل الاهتمام بالبيئة في صلب المجتمعات الاستهلاكية.  لم يعد كافيا تعزيز الوضعية الاستهلاكية بل يجب معرفة ما يحصل ببقايا هذه السلع أو عندما تصبح غير صالحة.  كيف يتم التخلص منها وما هي الآليات التي تسمح بمعالجة النفايات أو السلع المهترئة.  كيف يتم التصرف مثلا بالسيارات المنتهية الاستعمال؟  هل تحرق وكيف يتم التخلص منها؟  كذلك الأمر بالنسبة للغذاء المنتهي الصلاحية أو بقايا الاستهلاك المنزلي والمؤسساتي؟  تداخل الاستهلاك بالبيئة رفع مستوى التعاطي الاجتماعي وجعل المواطن واعيا أكثر لنظافة البيئة ونوعية الحياة.  فالمجتمعات التي لا تهتم بالبيئة تتكاثر فيها الأمراض التي تنتقل من جيل الى آخر كما تتدنى فيها نوعية الحياة.

ظهرت قوة المستهلكين مؤخرا عبر وقف انتاج طائرة A380 من قبل شركة أيرباص الأوروبية.  انتاج طائرة ال 600 مسافر اعتمدت على فكرة أن تكلفة نقل المسافر الواحد تكون منخفضة عندما يرتفع العدد وذلك اعتمادا على مبدأ وفورات الحجم المعروف في العلوم الاقتصادية.  لكن ركائز النقل الجوي تغيرت كليا، اذ أن المسافر يطلب اليوم أكثر من أي وقت مضى السفر المتكرر المرن عبر وساءل نقل صغيرة سريعة تهبط بسهولة في كل المطارات.  كما أن المنافسة القوية وتحرير الأسعار في الأسواق الأساسية جعل من طائرة بهذا الحجم غير مربحة وبالتالي لم يكن ممكنا الاستمرار بها.

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment