بقلم: ماروُن سَامي عزّام
حبيبتي تجلس لوحدها خلف أسوار الغياب، في ديوان الخصام الذي بَنَته وحدها، لم تطلب مساعدةً من أحد، والأصعب أنها أقامته على أسس الافتراق، جعلتني في حالة تعب مستمرة، فتضاعفت مأساة غيابها. لا تعرف أنها سبَّبت لي جُرحًا مُقلِقًا لا يريد أن يندمل، ما زال الألم يحفر فيه أكثر، لكنّني أعتني به يوميًا في غرفة الذكريات، لم أهمله للحظة، أضمِّده يوميًا بضمادة الصَّبر، لتبقى رائفةً به، دون أن تضغط على ضميري نحو التَّشدُّد أكثر تجاه حبيبتي. أنا متأكِّد أن هذا الجُرح سيتحوّل لاحقًا إلى نَدَبَة أزليَّة.
انتقلت عدوى قسوتها إلي، متفشِّيةً في تفكيري، فعزَلتني عنه. لم تُنذِرني أنها ستَّتخذ خطوة الغياب الخبيثة واللئيمة، بل بَصَمَت أثر إصرارها على درب عنادها، وشمت وشم بعادها على كفِّ يدها، لن يُمحى، لتتذكر فقط ساعة قيامها بانشقاقها العاطفي عنّي، كأنّي لم أعُد أعني لها شيئًا. لم آخُذ على مَحمَل الجد هذا التَّصرُّف غير اللائق، اعتقدتُ أنها تلاعبني لعبة الغُمَّيضة، التي لعبناها في صغرنا، لذا أحبّت استرجاعها، لتجعلني أتقصّى مكان اختبائها، ولكن ما قامت به لا يستحق هذا الغياب الملعون، فاقد الذّاكرة.
يوجد بيننا مساحة شاسعة من الحب، تتَّسع للعتاب، الغيرة والغضب، لئلّا يتصادموا مع طبيعتينا. أعلم أن عودتها ستثير ضجّة داخليَّة من الاستغراب، لتُلبِّكَني قوة حضورها المختلفة، ولا شكّ أن نفسيَّتها المتجدِّدة ستُحرِّك مشاعرها... مظهرها الخارجي سيكون مثيرًا للجدل ومُنَفِّرًا، لكن لغاية الآن لا يوجد أي معلومة، تحدِّد لي مكان تواجدها!!!
أعرف أنّها إلى الآن لم تتخلّ عني، لأنّي جزء من كيانها. هذا الغياب المصطنع، مجرَّد درسٍ لي لقنتني إيّاه دون تحفُّظ، وكل ذلك نتيجة تهويلها الأُنثوي، بعد رؤيتها لإحدى المعجبات تجاملني وأنا بادلتها بالمثل، مع أنّي لم أبغِ إغاظتها، فصمَّمَت على إعادة برمجة هذا الحب حسب منطقها، فرضت عليّ جزية غيابها الإلزاميَّة، أدفعها من صندوق انتظاري. أعلَنَت يوم الغفران غير المبرر في مرافق حبّنا، وعطّلت فيها الحركة، كما لا أستبعد أنها سترفض مداواة إلتهاب الغيرة في جسد عدائها الثّائر، نكايةً بي.
ذُهلت من قذائف الشّائعات التي أطلَقَتها مَدافع المغرضين بها، كادت أن تقتل نصيبي، ثار يأسي فجأة، خبّأته حالًا خلف جدار احتمالي، لا أريده أن يخرُج من إطار احتواء الأمور بيننا، بل أريد أن أفسح مجالًا للمصالحة. صرتُ كراهبٍ يعيش في دير الخلاص، ليرحمني من عذابها، وبدأت تسيل دموع قهري رويدًا رويدًا من شمعة صمتي المضيئة ذهولًا، فلسعتني لأبحث عن أفق الأمل المُبَشِّر!!
تمنّيت أن أكون محققًا سريًّا مع الفتيات اللواتي يعرفن مكانها، فأستجوبهن بطريقتي الأدبيّة، لأجمع بعض المعلومات عن مكانها السّري، الذي لم تفصِح به حتّى لأقرب صديقاتها. أتمنّى أن أكون عرّافًا، لأرى من خلال الكرة السّحرية نيَّتها الحقيقيَّة، هل نحو الجفاء؟! أم تأرجحها أرجوحة الأيّام المعلّقة على حبال الأشهر، ما بين حزني وجزعي، تلوِّح لي بمنديل اغترابها عنّي.
لو كانت قطّة أليفة وطردتها منه، لعرفت طريق العودة، لكنّها هربت مع حقيبة الماضي، ولم تترُك لي أي غرضٍ مشتركٍ منه، وكأنها رحلت عنّي بشكل نهائي، فإن هذا يُخيفني جدًّا... سأزيح قطاعات المجهول التي أحاطتني بغيابها، إلّا أنّني لم أقدِر على إزاحتها. كلّما هممت بالبحث عنها أجد عزيمتي مُقيَّدة، لإحباط هَبَّة إرادتي. مع مرور الوقت تقلَّصت مجالات بحثي عنها. ليس بإمكاني تسلُّق أسوار الغياب، لأنها قد جهَّزت حبال حيلتها مسبقًا، لتتسلَّق عليها دون النَّظر إلى الأسفل، خوفًا من السقوط في قاع النَّدم!!
غيابها عنّي حالة وجدانيَّة، تدُور فيها أحاسيسي الليليَّة حول قمر الاشتياق. مكانها محجوز في داخلي لن يضيع، ربّما تجد خلف الأسوار علاجًا لغيرتها المَرَضِيَّة، لتَعرِف غلطتها بوضوح أكثر، وقد يكون بحثي عنها بداية توعية لي، لتُنَقِّي رأسي من التَّشكيك بها، لأخفِّف من ثِقَل همّي عليّ، أيضًا أنا أتحمُّل جزءًا من المسئوليَّة تجاهها، ريثما تبدأ أسوار الغياب بالتَّصدُّع!!
Comments