بقلم الدكتور لويس حبيقة
لا شك أن الرئيس بوتين قوي في الداخل وتنعكس قوته على الخارج وفي الخارج، وهذا ما يظهر في روسيا وفنزويلا وكوبا ومنطقتنا. هنالك حاجة عالمية لقوة تنافس الولايات المتحدة، وبالتالي تخلق نوعا من التوازن المفقود في العلاقات الدولية. طريقة ادارة الرئيس ترامب للمصالح الأميركية لا تريح أكثرية الدول النامية والناشئة حتى تلك التي تتعاطف سياسيا مع الرئيس الأميركي. المزاجية في القرارات الترامبية ربما لا يمكن تفسيرها بسهولة حتى من قبل الأميركيين أنفسهم. أكثرية الدول العربية الحليفة لواشنطن تسعى بدورها الى التوازن في العلاقات الدولية حماية لنفسها ولمصالحها، فتمد الجسور الى روسيا والصين. تقلب العلاقات الأميركية كما حصل مع كندا والمكسيك ودول أسيا وغيرها يجعل الجميع يفتش عن بدائل أو أقله عن تنويع ممكن في العلاقات السياسية والاقتصادية.
كل دولة تحصل في النهاية على الحكم الذي يمثل رغبات شعبها، اذ من المستحيل قمع رغبات الشعب الى ما لا نهاية. لا بد للقيد من أن ينكسر، كما حصل في تونس وليبيا ومصر والجزائر والسودان بالرغم من أن النتائج على الأرض لا ترض بعد ولا بد من الانتظار حتى يتحقق التغيير الواضح والنوعي. في لبنان مثلا، يتذمر اللبنانيون منذ سنوات طويلة من سؤ حكمهم ومن الفساد المستشري في السياسة والادارة وحتى في الاقتصاد. لكن عندما تحصل انتخابات كتلك التي تحققت في 2018، نرى اللبنانيون يقترعون في العموم الى نفس الطبقة السياسية مع بعض الاستثناءات. فمن يكون المذنب؟ ليس قانون الانتخابات الذي غيرناه مرارا وأنتجنا نفس النتائج. المذنب هو صراحة نحن، اذ لا نقترع كما يجب بل لا نقترع كما نتجاهر علنا به قبل الانتخابات أي الرغبة في التغيير فلا نغير عندما تدق ساعة الاقتراع. أين يكمن الخطاْ اذا؟ لعل الانتفاضة الحالية تعطي نتائج تغييرية واقعية على الأرض.
ما الذي يميز حكم بوتين عن ما سبقه أي تحديدا حكم يلتسين؟ لماذا فشل يلتسين قبله؟ أسعار النفط هي السبب الأساسي. خلال معظم حكم يلتسين، كان سعر برميل النفط ما دون ال 20$. بدأ من سنة 2000، ارتفع ووصل الى 70$ في 2006 والى 130$ في 2008 فانتعش الاقتصاد الروسي مما سمح للحكم بالتأثير القوي على الاعلام الذي يؤثر بدوره على الرأي العام خاصة عبر شاشات التلفزة التي يشاهدها أكثرية الروس. اذا أضفنا الى أسعار النفط المناسبة اصلاحات مهمة تحققت في القوانين الاقتصادية والتجارة الدولية وقطاعات التكنولوجيا، نفهم الى حد بعيد أسباب الالتفاف الداخلي حول بوتين. لكن عودة أسعار النفط الى مستويات جديدة منخفضة نسبيا، تضعف اليوم حكم الرئيس وربما تسبب دفعا جديدا نحو التنويع الانتاجي الذي يحتاج اليه الاقتصاد.
روسيا اقترعت مرارا لبوتين بالرغم من أنه لم ينجح كثيرا في الاقتصاد. بعد نمو سلبي في سنتي 2015 و 2016، يحصل النمو الايجابي بنسبة سنوية 1,5% وهي ضعيفة لكن أقله ايجابية وذلك عموما بفضل أسعار النفط. هنالك فائض في ميزان الحساب الجاري ينعكس ايجابا على الاحتياطي النقدي الذي يصل الى 17 شهر من الواردات. مستوى الفقر أدنى والدخل الفردي يقع في المرتبة 52 عالميا. النتائج الاقتصادية المحققة متواضعة لكنها لا تبرر لوحدها استمرار قوة بوتين بل هنالك حكما أسباب سياسية وادارية. في السياسة وخاصة بسبب ضم "القرم" الى روسيا والصراع مع أوكرانيا والعقوبات التي تلت، شعر الروس مجددا بالقوة التي فقدوها مع زوال الاتحاد السوفياتي فألتفوا حول بوتين. أعطى بوتين الروس ثقة بالنفس وبالمستقبل وأعاد الدولة الى قلب الصراع السياسي الدولي ليس فقط في أسيا وانما عالميا بما فيها فينزويلا. عندما توفي ستالين في سنة 1953 بكى السوفيات عجبا لأن ستالين أعطاهم فخر الانتصار في الحرب العالمية الثانية خاصة الانتصار على النازية والفاشية. الشعب الروسي يرغب بالديموقراطية على عكس ما يعتقد البعض، لكنه يريد أيضا الحزم والوضوح في القرارات المصيرية الوطنية.
في كل حال تدوم الديكتاتوريات اليوم أو عموما السلطات القوية ليس فقط عبر القوة وانما أيضا عبر ممارستها لادارة ذكية تسبب اضعاف المعارضة سلميا وشعبيا وليس بالقوة. المقصود هنا، تستعمل السلطات القوية الخدمات الاعلامية والاعلانية المتنوعة لتخفيف استياء الشعوب أو غضبها وبالتالي تعمر تماما كما حصل مع حكم بوتين. تؤثر الديكتاتوريات بذكاء بوسائلها المتنوعة على شعور المواطن ومشاعره وعواطفه وتجذبه اليها مما يسهل استمرارها ودوام حكمها. الاستمرار عبر الاقناع أقل تكلفة وأفعل من الاستمرار عبر القوة. تشير الحقائق التاريخية الى أن العواطف والمشاعر تكون أحيانا أقوى من الحقيقة والوقائع والمصالح، وبالتالي هي في غاية التأثير والأهمية.
يخطئ من يعتقد أن الحكم الحالي في روسيا يأتي من فوق الى الأسفل فقط، بل هنالك تأثير كبير في الاتجاهين. يحاول الحكم دائما بطريقة أو أخرى أخذ تمنيات الشعب وادخالها بجدية في صلب قراراته. هل روسيا دولة ديموقراطية؟ الحكم الديموقراطي هو الذي يتميز بالشروط الأربعة مجتمعة أي انتخابات حرة وعادلة، الحفاظ على حقوق الأقليات الدينية والعرقية، احترام حرية الصحافة وووجود دولة القانون. هنالك دول قليلة في العالم تحترم الشروط الأربعة مجتمعة، وبالتالي لا يمكن أن نلوم الحكم الروسي وحده. لا شك أن روسيا اليوم هي أكثر ديموقراطية من النظام الشيوعي وحكم الحزب الواحد الذي استمر منذ 1917 وحتى بداية التسعينات لكنه لم ينضج بعد بسبب الظروف الداخلية كما الخارجية.
يستعمل بوتين بذكاء تقنيات علم النفس بحيث يشعر الروس أنهم أصحاب القرار والرئيس وحكومته ينفذون الرغبات الشعبية العامة. يصغي بوتين كثيرا الى استفتاءات الرأي والاحصائيات قبل أن يأخذ قراراته في كل الميادين. يسمع بل يصغي لما يريده المواطن العادي ويسعى لارضائه. بوتين مقتنع على ما يظهر أن الحكم بالقوة خطر ومكلف ولا يعطي النتيجة الشعبية التي يريدها له ولدولته. في كل حال، لا يمكن لحكم تسلطي أن يستمر الا اذا غض الشعب النظر عنه أو قبله. موظف الاستخبارات العادي أصبح رئيسا غير عادي في دولة مهمة تسعى للعب دور كبير على الساحة الدولية. هنالك حاجة دولية اليوم لقوة تنافس أميركا في السياسة ويظهر أن الصين ليست جاهزة أو لا ترغب بعد في لعب هذا الدور. ربما أن الصين لا تشعر بالجهوزية بعد للعب الدور الدولي المتوقع. صراع ترامب التجاري مع الصين سيعجل بلعبها الدور الدولي وليس العكس كما يعتقد البعض. في كل حال من يبقى للمنافسة؟ روسيا وبوتين اذ يكملان بعضهما البعض.
أخيرا هل يمكن وصف حكم بوتين بالقوي كما نسمع ونقرأ في الاعلام العالمي؟ يقول الكاتبان "غرين" و"روبرتسون" في كتابهما عن الرئيس الروسي أن حكمه هش على عكس ما يظهر. قوة حكمه مستمدة من الشعب وبالتالي يخضع للمزاج الشعبي المتغير دائما. يرتكز حكم بوتين اليوم أيضا على موجة شعبية عالمية ترغب في وجود رؤساء "أقوياء" ك"أوربان" في هنغاريا و"اردوغان" في تركيا وغيرهما. تمتد هذه الموجة الى روسيا مما يفسر وجود عوامل عديدة تمد عمر وتقوي سلطة بوتين في السياسة والادارة. هل يمكن استبدال بوتين بسهولة عبر الانتخابات؟ تشير الوقائع الى صعوبة ذلك لأنه ليس هنالك اليوم بين السياسيين الموالين والمعارضين المعروفين من يتمتع بالجاذبية والتأييد والذكاء الذي يظهر من بوتين. تحتاج روسيا الى وجوه جديدة لا تنتجها ربما العملية الانتخابية والسياسية الحالية. لا تفتقد روسيا الى شخصيات كفؤة وبارعة لكنها يجب أن تظهر وهذا هو صعب اليوم ولكنه ممكن مستقبلا عندما يخف الالتفاف حول بوتين بسبب الصراعات الدولية وربما الداخلية.
Comments