الرئيسية

الاقتصاد

الاستثمار في المدن

12/22/2019 - 18:39 PM

بقلم الدكتور لويس حبيقة

من مزايا التنمية خلق أو توسيع مدن تكبر مع الوقت بسبب التكنولوجيا والتوزع السكاني. مهما كبر الريف وتطور، لا يعتبر العالم والشعب أن اقتصاده تطور وتقدم. التنمية تعني التمدن أي الاعتماد على المدينة بدرجة كبيرة. أهمية المدن ليس فقط تغيير الحياة بل تطويرها، بل تعني أيضا رفع انتاجية العمل خاصة في الخدمات. أهمية المدن أنها تسمح بخلق شركات كبيرة وبالتالي للاستفادة من الحجم الذي يخفض معدل التكلفة وهذا ما تطمح اليه كل الشركات. أهمية المدن أنها تخفف تكلفة النقل التي تشكل قسما كبيرا من تكلفة الانتاج عندما يتم نقل السلع من المنتج الى المستهلك عبر مسافات طويلة في الريف. أهمية المدن أنها تفرض على الحكومات تطوير البنية التحتية من طرق وكهرباء واتصالات وبالتالي تسهل حياة المواطنين وتصلهم ببعض بأقل تكلفة ممكنة. المدن ليست كلها ايجابيات بل سلبياتها ممكن أن تكون أقل.

نتكلم دائما عن الثورة الصناعية كمصدر للتطور ولتغيير الحياة الانتاجية والاستهلاكية. ماذا عنت حقيقة الثورة الصناعية عندما تحققت بدأ من القرن الثامن عشر وبالتالي ما مدى أهميتها المتواصلة حتى اليوم؟

أولا: بفضل انشاء المدن وتغير هيكلية شبكات النقل ورفع انتاجية الآليات من سيارات وشاحنات وغيرها، تحقق انخفاض كبير في تكلفة النقل. ما زالت التكلفة تنخفض حتى اليوم خاصة في النقل الجوي حيث انخفضت التعريفات كثيرا خاصة في الأسواق التي ترتفع فيها المنافسة. تنخفض التعريفات في الشحن حيث تنقل البضاعة في سفن كبيرة وتجمع في حاويات لتخفض تكلفة ايصال السلع عبر البحور. انشاء المدن يفرض اعتماد قوانين لحماية المنافسة اذ هنالك خطورة من سيطرة شركات كبيرة وقليلة على كل الأسواق.

ثانيا: زيادة وفورات الحجم بسبب التكنولوجيا التي تطور وتسرع طرق الانتاج. في المدن الصغيرة والريف لا يمكن الاستفادة من الحجم، وبالتالي لا بد من أسواق كبيرة تؤمنها المدن الكبيرة للمصانع أينما وجدت. تطور التكنولوجيا مربك للانسان الذي عليه مواصلة التعلم والمتابعة مهما كبر سنه. تطور الذكاء الاصطناعي مربك في توسعه الى كافة القطاعات مما يهدد الوظائف ويسمح بنشر كل المعلومات الخاصة، أي يهدد الأخلاق وطرق التعامل بين المواطنين كما بين المواطن والدولة.

ثالثا: نتج عن الثورة الصناعية منذ بدايتها وما زال تطور القطاع الصناعي في انتاجيته وتنوع سلعه بالرغم من أن نسبته من ناتج الاقتصادات انخفضت لصالح قطاع الخدمات. لا يكفي اليوم أن ننتج بل هنالك النقل والتسويق والتمويل والتأمين وغيرها والتي تؤثر على واقع ومستقبل القطاع الصناعي. كذلك الأمر زراعيا حيث تتوافر كل السلع انما دور الزراعة في الاقتصادات انحدر أيضا لصالح قطاع الخدمات.

رابعا: انتقال الانسان للعيش في المدن سهل تطور قطاع الخدمات وسمح للقطاعين الزراعي والصناعي بأن يوزع انتاجه بأقل تكلفة على سكان المدن. تطور المدن سمح بتحقيق وفورات الحجم أي تخفيض التكلفة ودفع الشركات الى تطوير وسائل النقل ورفع انتاجية الانتاج في كل القطاعات. بالرغم من أن المدن لا تحتوي اليوم على زراعات وصناعات بل فقط خدمات الا استثنائيا، مزايا خلق مدن كبيرة يبقى مهما دون أن ننسى مواضيع التلوث والبيئة والفقر وتفشي الجرائم في بعضها.

فالتطور المدني مهم للأسباب المذكورة أعلاه بالاضافة الى أنه يشكل حلقة تواصل كبرى بين المواطنين مما يشكل موقعا لنقل العلم والمعلومات والعلوم. وجود المعاهد والجامعات الكبيرة في المدن يسمح بنقل المعرفة والحوار بشأنها. انتشار حلقات الحوار والندوات في المدن ينقل المعلومات بتكلفة قليلة، اذ معظم هذه اللقاءات مجانية أو ما يقارب ذلك. فالتطور المدني يسمح بكل ذلك ويعطي فرصا للشركات لتخفيض تكلفة انتاجها وتسويق منتجاتها وخدماتها بتكلفة قليلة وبالتالي تكبر حجما. من كان يعتقد أن شركات كغوفل وفايسبوك ستكبر لتصل الى الحجم الذي وصلت اليه اليوم. النقاش الحاصل في الولايات المتحدة اليوم هو حول تقسيم هذه الشركات وخاصة فايسبوك لتسهيل المنافسة ومنعها من السيطرة على أسواق المعلومات اذ ما تقوم به يعتبر خدمة عامة كما هو حال الاتصالات والكهرباء والمياه. يخاف مجتمع التكنولوجيا اليوم من قوة رئيس فايسبوك الذي يملك 60% من أسهم الشركة التي أسسها، وبالتالي من سيطرته على الاقتصاد وخصوصيات المجتمع الأميركي والدولي.

كيف يؤثر التطور المدني على أسواق العمل في خصائصها وتوزعها ونسبها علما أن الأوضاع تختلف بين دول وأخرى بل بين مدينة وأخرى في نفس الدولة؟

أولا: لا شك أن التطور المدني يؤثر على التخصص الوظيفي اذ هنالك مهمات لا يمكن أن تكون في الريف وبالتالي لا بد من المدن الكبيرة لتأمينها. تكون وظائف الخدمات موجودة في المدن في أكثرياتها الساحقة بما فيها وظائف التسويق الصناعي والزراعي. وجود المدن الكبير وبسبب التواصل الانساني والعلمي والخبراتي يسمح برفع انتاجية العامل والموظف وهذا مهم جدا للتنمية. وجود المدن الكبيرة يؤثر على التوزع السكاني لصالحها بالرغم من أن العيش في الريف ايجابي جدا للصحة والأعصاب والراحة. لا شك أن أكثرية السكان تفضل العيش اليوم في المدن لسهولة الحياة بالرغم من السلبيات البيئية والسكنية والمعيشية المعروفة.

ثانيا: ارتفاع الانتاجية في المدن نتيجة التخصص والمسافات يؤثر ايجابا على مستوى الفقر كما على مؤشرات التنمية الانسانية والاجتماعية. تؤثر المدن ايجابا على تكلفة التبادل التجاري بسبب المسافات وقرب العيش المشترك ووجود أسواق كبيرة فاعلة ترتكز على تكنولوجيا حديثة تؤمن تناقل المعلومات والسلع كما الخدمات. تكلفة التبادل التجاري تكون 4 أو 5 مرات أكثر في الدول النامية مقارنة بالولايات المتحدة مثلا بسبب تطور المؤسسات والقوانين والتكنولوجيا ووسائل النقل وغيرها.

ثالثا: لا شك أن المدن الكبيرة تعاني من العدد السكاني الكبير وبالتالي من زحمة السير الخانقة التي تؤثر على نوعية الحياة وتهدر الوقت الكثير. تفضيل العيش في المدن لا يقتصر فقط على مواطني الدولة بل على المهاجرين اليها الذي يلحقون أسواق العمل المتوافرة بدورها في المدن الكبيرة. لا شك أن التمييز بين العامل والموظف مهم جدا في انتقاء مراكز العمل والسكن، اذ أن الخصائص والمبررات والأسباب تكون مختلفة جدا.

رابعا: لأن الانتاجية ترتفع في المدن مقارنة بالريف، نرى أن الدول التي تتكل أكثر على ريفها في الانتاج والاستهلاك تكون عموما أفقر. لا يمكن القول أن التطور المدني يرفع بالضرورة من مستوى النمو، بل هنالك أحيانا تطور مدني دون نمو وهذا سيء اذ يجلب كل مساوئ المدن دون تحقيق البحبوحة المرجوة. التطور المدني من دون سياسات مناسبة تعالج المساوئ البيئية والسكانية يمكن أن يؤثر سلبا على الانتاج الصناعي والخدماتي.

من مزايا سوق الحرير الصينية الجديدة أنها ستثتثمر كثيرا في المدن وفي البنية التحتية وتخلق شبكة تحالفات قوية. انشاء جسر واحد في دولة أسيوية نامية سيكون له تأثير كبير على المدن المجاورة وعلى تكلفة ووقت النقل وتكلفة الشحن ويدفع السكان الى السكن حوله. يمكن تخيل تأثير انشاء عشرات الطرق والجسور والأنفاق في دول عدة وقارات مختلفة ليس فقط على النمو وانما خاصة على التنمية. يحاول ترامب اليوم الضغط على الصين تجاريا الا أن يهمل معالجة المصالح الطويلة الأمد للولايات التحدة وهذا خاطئ تجاه الاقتصاد والشع

الإمارات العربية المتحدة