بقلم الدكتور لويس حبيقة
لا شك أن تطورات الوضع اللبناني فاجأت الجميع باستمراريتها وحدتها وقوة الرسالة الصادرة من الشارع. كنا جميعا نقول أن الوضع في لبنان سيء، لكن التغيير صعب بسبب العوامل الطائفية والمذهبية والمناطقية وغيرها. لكن استمرار اهمال المرافق العامة وعدم السماع لوجع الشعب أغضب الرأي العام الذي يريد التغيير اليوم. اللبنانيون انتفضوا على الاهمال وعدم الاحترام ولا يكتفون بعد اليوم بالخطابات الضبابية التي هدفها تمييع الأمور وتأجيل الحلول واستمرار الفساد وتخدير الرأي العام الواعي.
الانتفاضة فاجأت السياسيين ولا بد أنهم يندمون اليوم على سؤ التصرف والاهمال، لكن ما فات قد فات ولا بد من التغيير وثم المحاسبة الجريئة عبر القضاء. تغيير الأوضاع في لبنان يتطلب قيادات جديدة شفافة كفوءة تخاطب الرأي العام بصدق ومعرفة ورغبة صادقة في الاصلاح. الأمل كبير لكن التحديات كبيرة أيضا والأخطاء يمكن أن تتراكم وتعرقل مسيرة التطور.
السياسيون اللبنانيون الذين بنوا مسيرتهم على خدمة الشعب لهم، ما زالوا يتوقعون بل يأملون أن تفشل الانتفاضة وتعود الأمور الى سابق عهدها. ليس هنالك ما يشير الى انتصار الانتفاضة اذ يتطلب ذلك تنسيقا أكبر بين قيادات الحراك لمنع مرور وسائل التفشيل التي يمكن أن تكون سياسية أو اقتصادية أو حتى أمنية. السياسيون في لبنان لم يقرأوا جيدا ما حصل في بعض الدول العربية كتونس أو في بعض الدول الغربية كأوكرانيا وأرمينيا أو حتى في الدول المتقدمة كفرنسا مع السترات الصفراء التي تخيف الحكم والحكومة.
العالم يتغير اليوم تحت الضغط الشعبي وعلى الجميع قراءة ما يحصل في هونغ كونغ وفي التشيلي وغيرهما من البقع التي تثور فيها الشعوب وتغضب وتنجح، اذ لا يمكن مواجهة الرأي العام المطالب بالحق والعدالة والاحترام وحسن المعاملة.
الشعوب أصبحت اليوم جريئة في مطالبها وفي الحصول على حقوقها.
لا يمكن للسياسيين محاولة الغش التي لن تنجح. في لبنان، ما زالت أكثرية السياسيين تحاول غش الناس عبر الوعود الكاذبة والمزيفة والكلام الفارغ المنمق وغيرها من وسائل التمييع والتأجيل واللعب على المشاعر الموروثة. يستعد الناس في كل الدول للمطالبة بالحقوق بجرأة وصراحة وحتى بالوسائل العنفية عندما لا تسمعهم الحكومات وتحاول تفريقهم. بماذا يطالب المنتفضون اللبنانيون عموما؟ بالحقوق السياسية ورفع مستوى المعيشة ومحاربة الفساد واحترامهم وحسن التعامل معهم.
فهل هذا كثير ولماذا يمعن السياسيون بالمواجهة الجائرة المضرة حفاظا على مكاسبهم غير الشرعية من منافع وتوظيفات بالجملة وسرقة وهدر الحاضر كما المسقبل؟ فهل مواجهة الشعب أهون وأقل تكلفة من تلبية المطالب العادلة التي تبني المستقبل أولا وتحاسب ثانية بعد تغيير العديد من القوانين واجراء الاصلاحات المنطقية.
لا يعرف بعض الناس أن الركود الكبير في سنة 2008 لم يكن ركودا اقتصاديا فقط، بل أحدث ثورة سياسية في كل أنحاء العالم. سبب الركود الكبير وعيا غير مسبوق عند الشعوب اذ لماذا نتوقع مثلا أن تستمر الجماهير في تأييد الأنظمة الرأسمالية القائمة عندما لم تحصل منها على حقوقها بل بقيت أوضاعها الاجتماعية متعثرة؟
لماذا لا نتوقع من الأكثريات الشعبية أن تثور على كل شيء لتغيير الأوضاع عندما ترى أن تحالف الأقلية السياسية مع الأقلية الميسورة يسيء الى مصالحها ومستقبلها ومستقبل الآجيال القادمة. الأجيال الخاسرة في 2008 نتيجة الظروف وسؤ التصرف السابق تطالب بالتغيير السياسي والديموقراطي والاجتماعي وليس فقط الاقتصادي. "العدالة الاجتماعية" أصبحت عقيدة تنفيذية جديدة ولا يمكن استغلال شعاراتها من قبل السياسيين لغش الشعب وتأجيل زمن التغيير.
شجعت أزمة 2008 وما أحدثته في الأسواق المواطنين على التنظيم ضمن مجموعات ذات أهداف مشتركة تطالب بحقوقها بكل جرأة كتجمعات النساء والمعاقين والمهن الحرة وغيرها. لم تعد المطالبة الكلامية كافية، بل لا بد من حسن التنظيم والمطالبة بالحقوق بكافة الطرق المشروعة بما فيها التظاهر والاضراب والضغط الشعبي على السياسيين خاصة قبل الانتخابات. التنظيم أساسي وهذا ما فهمته منظمات الحراك المدني اللبناني وتنسق فيما بينها بسرية ودقة ونجاح شرط القبول بتحقيق المطالب تدريجيا للحفاظ على التأييد الشعبي الضروري.
عالميا لم تعد المطالبات تجري بهدؤ بل هنالك دائما نوعا من العنف الكلامي اذ أن التعلق بالمصالح من قبل السياسيين أصبح كبيرا والتنازل عنها أصبح صعبا ومن غير المرجح أن يتم بهدؤ. العيش في مجتمع معا بهدؤ واحترام أصبح صعبا عالميا خاصة عندما تكون المصالح مختلفة والقراءة متناقضة تماما كما يجري في لبنان في السياسة ومنذ سنوات طويلة. تريد كل مجموعة سياسية الكثير وربما كل شيء، من هنا صعوبة التعايش السلمي وبالتالي اللجؤ الى الشارع.
هنالك ظلم في كل المجتمعات يفهم أولا من التعبير العادي أي مثلا من مخاطبة النساء كالرجال وعدم احترام دور المرأة في كل المجتمعات. أكثرية الموظفين في القطاع المصرفي اللبناني هم من النساء، علما أن القيادات العليا في تلك المؤسسات أكثريتها من الرجال مما يشير الى امكانية التمييز ضد الجنس النسائي.
ما زالت فجوة الأجور والمنافع والحقوق كبيرة بين الرجل والمرأة لنفس العمل في كل الدول علما أن الفجوة أوسع وأكبر في الدول النامية. ما زالت فجوة الدخل كبيرة بين الأعراق كالفارق الاحصائي الواضح بين الشخص الأبيض والشخص الأسود في معظم الدول وفي الولايات المتحدة تحديدا. يمكن أن نلاحظ نفس الفوارق بين الأديان في المجتمع الواحد اذ تغلب عندها الغريزة على العقل والفهم والمنطق. تقدمت المجتمعات دون شك، لكن الظلم ما زال كبيرا حتى في أرقى المجتمعات كالاسكندنافية مثلا.
الظلم يجعل الانسان يشك في نفسه وفي حياته وفي قدراته وبالتالي مرفوض في المنطق والواقع. قال الفيلسوف الفرنسي "جان جاك روسو" أن الانسان ليس سيئا وقلبه ناصع البياض لكن الخطاء يكمن في الممارسات الخاطئة التي تدفع اليها المجموعات المتطرفة في أقصى اليمين واليسار مثلا. ساهمت كثيرا وسائل التواصل الاجتماعي في الدفع الى التطرف، اذ أن الحوار وجها لوجه خف وأصبحت المواقف تعلن عبر هذه الوسائل مما يفسر حديتها. الحوار يخفف التطرف ويجعل الانسان يفهم الآخر أكثر وبالتالي محبذ. حرية الكلام والخطاب بالاضافة الى المعايير والمفاهيم المشتركة واستعمال العقل قبل الكلام تخفف جميعها فرص الخلاف.
من المهم جدا ودائما أن تتكون في المجتمعات مجموعات تفكر ايجابا أي تنظر الى المستقبل بعين بيضاء، فتساهم في تقوية الثقة داخل الدول وتمنع انتشار الرسائل الغاضبة والسيئة وتزيد اللحمة بين المجموعات الدينية أو العرقية. تساهم الأفكار الايجابية في تفعيل القرارات الجيدة في الاستثمار والانفاق والنمو. العامل والموظف والاداري اليوم خائف من المستقبل، أي مثلا من امتداد "الذكاء الاصطناعي" الذي يمكن أن يحل مكانه.
الأفكار السيئة الخاطئة المبشرة بالأزمات مثلا تنتشر بسرعة أكثر من الأفكار الجيدة، اذ تخيف الأولى المواطن وتجعله يتصرف من دون تفكير ومنطق. لذا المطلوب اليوم في لبنان وفي كل المجتمعات التي تمر بظروف خطيرة وصعبة أن تحافظ دائما على الحريات وتشجع على المنافسة وتطبق السياسات التي ترفع الانتاجية وتحاول تخفيف فجوتي الدخل والثروات عبر الضرائب والدعم والمساعدات وضرب الفساد. لا شك أن اللبناني سيتعلم كثيرا من الأزمة الحالية التي ليس لها سوابق في تاريخنا وبالتالي ستغيره ليس فقط في ميادين العمل وانما أيضا في علاقاته في المجتمع مع بقية اللبنانيين.
Comments