بقلم الدكتور لويس حبيقة
لا يمكن فصل الوضع في الأرجنتين عن ما يحصل في أميركا اللاتينية. هنالك أزمات قاسية في القارة الجنوبية تضرب أهم دولها ويمكن أن تؤدي الى ركود عام في 2020. تقدر نسبة النمو فيها لهذه السنة ب 0,6% مقارنة ب 3,2% كمعدل عالمي أي 1,9% للدول الصناعية و 4,1% لمجموعة الدول النامية والناشئة. النمو الأميركي اللاتيني ضعيف بسبب المشاكل الكبرى التي تعاني منها دولها الأساسية كفنزويلا والبرازيل والمكسيك والأرجنتين. من المتوقع أن تنمو البرازيل 0,8% هذه السنة فقط بسبب سؤ ادارة الرئيس الجديد للبلاد والخسارات البيئية الهائلة التي تحصل بسبب الحرائق في الغابات الأمازونية. التحدي الذي أظهره الرئيس البرازيلي تجاه أوروبا وخاصة فرنسا لن يساعد الاستثمارات في البرازيل، وبالتالي من المتوقع أن لا ينتعش اقتصادها قريبا. فنزويلا في وضع كارثي منذ سنوات حيث لا تتوافر أبسط السلع الغذائية ولن تتحسن الأوضاع قبل ايجاد حل سياسي للأزمة الكبيرة التي تتخبط فيها البلاد. أما المكسيك، فلن تنمو أكثر من 0,9% هذه السنة بسبب تحديات الهجرة والصراع الداخلي بين اليسار واليمين كما بسبب الفساد الذي يضرب كل دول أميركا اللاتينية مع المكسيك في الصدارة تاريخيا.
تعود الأرجنتين مجددا الى الواجهة العالمية من ناحية تجدد الأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية الحادة مع نمو سلبي متوقع لهذه السنة أي 1,6%. لا شك أن الأرجنتين دولة متطورة وتنعم بغنى ثقافي واجتماعي كبير، لكن الاقتصاد يتعثر بقوة من وقت لآخر. من الأسباب تغير السياسات المطبقة بسرعة أي انتقال رأس على عقب كل فترة بسبب التبديل السياسي لحكم الدولة. انتقلت الأرجنتين مرارا من الحكم ذات الطابع الاشتراكي الى الآخر ذات الطابع الليبيرالي والعكس بالعكس. اليوم تنتقل الأرجنتين من حكم الرئيس ماكري اليميني الى حكم الرئيس فرنانديز البيروني أي الاشتراكي الميول. الرئيس ماكري كان صديقا لقطاع الأعمال وهو رجل الأعمال الناجح الذي حقق ثروة كبيرة عبر عقود سخية مع الدولة، لكنه لم ينجح في مهمته الرئاسية بالرغم من دعم صندوق النقد الدولي له عبر قرض ال 57 مليار دولار في سنة 2018. سدد الصندوق حتى اليوم 44 مليار دولار والباقي مبدئيا قريبا. هذا هو القرض الأكبر الذي أعطي لدولة منذ تأسيس صندوق النقد بعد الحرب العالمية الثانية. بعد أقل من سنة، ما زالت الأرجنتين تعاني وتتعثر وشبح الافلاس يظهر.
كيف كان الوضع عندما استلم ماكري الحكم في كانون الأول 2015؟ الوضع المالي للدولة كان متعثرا والقدرة المالية ضعيفة بالاضافة الى نسبة تضخم مرتفعة 25%. الاحتياطي النقدي كان ضعيفا والدعم المالي للخدمات العامة من كهرباء وماء ونقل كان باهظا. الثقة بالاقتصاد بقيت ضعيفة بسبب نوعية ادارة القطاع العام التي لم تصل الى المستويات الفاضلة المطلوبة. ما هي الأخطاء المرتكبة التي أوصلت البلاد الى وضعها الحالي؟
أولا: ارتفاع نسبة الدين الخارجي من الناتج من 35% من أول 2016 الى 60% في منتصف السنة الحالية. الاقتراض الخارجي يكون دائما مكلفا عندما يكون النقد الداخلي ضعيفا، حيث أن ايرادات الدولة هي بالنقد المحلي. عانى البيزو الأرجنتيني الأمرين خلال فترات طويلة من الزمن ولم يتمكن المصرف المركزي كما الحكومات الأرجنتينية المتعاقبة من حمايته بالرغم من تعديلات كبرى وضعت على النظام النقدي.
ثانيا: أنفقت الدولة أكثر من 16 مليار دولار على حماية البيزو دون نجاح. الطلب قليل بسبب عدم الثقة في القطاع العام والسلطات المختلفة وبالتالي في النقد. هدرت المليارات دون نتيجة. في 176 حصل انقطاع كبير في الكهرباء عانى منه 50 مليون مشترك أرجنتيني بالاضافة الى دولتين مجاورتين هما اليورغواي والبراغواي. نزفت الكهرباء شعبية ماكري وضربت الجاذبية السياسية التي كان يتمتع بها في بداية عهده.
ثالثا: لم ينفذ ماكري وعوده الانتخابية وأهمها تقوية المؤسسات الديموقراطية، تخفيف تدخل القطاع العام في الاقتصاد، الغاء القيود على رؤوس الأموال، كما طبق نظام تقاعد جديد لم يرغب به الشعب وبالتالي دمر شعبيته خاصة ضمن الطبقات الوسطى وما دون. 49% من الشعب الأرجنتيني يعتقد أن الفساد في دولته ارتفع خلال السنة الماضية وهذا مدمر للاستثمارات الجديدة ولأي ثقة في الدولة. خلال فترة حكم كريشنر من 2003 الى 2015، جمدت أسعار الخدمات العامة التي كانت تكلف 3,5% من الناتج، لكن ماكري اضطر لرفعها بسبب عدم قدرة الدولة على الاستمرار بالدعم. لم يوقف الدعم فقط، بل رفع التعريفات مما انعكس على شعبيته. ربما افتقد ماكري الى تقنيات التواصل مع الشعب والتي تتطلب كفاءات مختلفة.
رابعا: حولت الأزمة الاقتصادية الرئيس ماكري من رجل اصلاح وتقدم الى اطفائي للحرائق المختلفة التي نشأت في معظم القطاعات والمؤسسات. في مؤشر سهولة الأعمال الذي يصدره سنويا البنك الدولي والذي يرتكز على قواعد معروفة ومشتركة لكل الدول، تأتي الأرجنتين في المرتبة 119 أي عمليا غير جاذبة للاستثمارات بسبب القوانين والمؤسسات والبنية التحتية. للمقارنة تقع البرازيل في المرتبة 109 واليونان في المرتبة 72 والامارات في المرتبة 11 كما قطر في المرتبة 83. مرتبة الأرجنتين حكما غير مقبولة.
ما المتوقع مع حكم الرئيس الجديد فرنانديز الذي يحظى على الشعبية الجماهيرية لكنه يفتقد الى دعم قطاع الأعمال والمؤسسات الدولية وفي طليعتها صندوق النقد؟
أولا: من الممكن أن يقف دعم صندوق النقد للاقتصاد أي لن تسدد القيمة الباقية من القرض بالاضافة الى المطالبة بتسديد ما دفع ضمن شروط العقد طبعا. من الطبيعي أن تقوم الادارة الجديدة باعادة التفاوض مع صندوق النقد للحصول على شروط أفضل وأموال جديدة ومساعدات تقنية واستشارية اذا أمكن.
ثانيا: هنالك خطر من أن تعود الأرجنتين الى تشديد القيود على رؤوس الأموال الخارجة، مما يعيق الاستثمارات ويعيد البلاد الى الفترات البيرونية المتشددة. النتيجة الحتمية لهذه السياسة، اذا ما طبقت، هي خروج أموال كبيرة من البلاد أي تحقيق ركود كبير وقاس بسرعة يعطل حكم الرئيس الجديد.
ثالثا: لا شك أن أسعار الأصول ستنخفض بسبب ضعف الطلب وزيادة العرض للخروج من الاقتصاد. سيؤثر على سلامة القطاع المصرفي الذي أعطى قروضا متكلا على أسعار أصول مرتفعة أو مقبولة. انهيار أسعار الأصول يسبب انهيار المصارف التي ستطالب القطاع الخاص العاجز بتسديد سريع للقروض وهذا عمليا مستحيل التطبيق ويؤدي الى افلاسات سريعة.
رابعا: من المتوقع أن يحصل تعثر جدي في اقتصاد البلاد أي ضعف الاستثمارات وخروج الأموال وبالتالي حصول ركود وبطالة وربما عجز في تسديد الديون العامة الداخلية والخارجية. سيبقى الاقتصاد متقلبا، أقله حتى استلام الرئيس الجديد السلطة في كانون الأول وربما يقوى فيما بعد وهذا في غاية الخطورة.
الأرجنتين هي في وضع لا تحسد عليه ويجب أن تشكل أمثولة للدول الأخرى في كل القارات. الأرجنتين الدولة المتقدمة ثقافيا وتاريخيا وتعليميا تتعثر في الاقتصاد بالرغم من الكفاءات البشرية الكبرى التي تنعم بها. الأرجنتين مثل كبير لسؤ الادارة المتكررة مع الأنظمة ولا يظهر أنها ستصل الى شاطئ الآمان بسرعة مع القيادة الجديدة. الفساد هو من أهم الأسباب ومعالجته لم تتم بعد. الشعب يدفع الفاتورة والحماسة للسياسيين تبقى قوية وغير مبررة بالرغم من الخسائر الكبرى التي عانى منها على مدى عقود من الزمن.
Comments