فؤاد الصباغ *
مما لا شك فيه تعد الثروات الطبيعية منها الغاز والنفط أهم المصادر الرئيسية للثروات الوطنية التي تحسن من المداخيل المالية للميزانية العمومية وتزيد من تراكم الناتج المحلي الإجمالي السنوي. كما تبين اليوم أن الصراعات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط وخاصة منها ملف دولة سورية الضحية للأطماع الدولية أصبحت هي المصدر الأساس في ذلك الصراع الإقليمي من أجل السيطرة علي المناطق الجغرافية لتسهيل مرور مصادر الطاقة إلي الدول المستهلكة وخاصة منها الأوروبية.
إذ أصبح رهان وضع اليد علي دولة سورية مكسب مالي وثورة كبري باعتبارها موقع إستراتيجي لتسهيل العمليات التجارية خاصة في مجال الطاقة. بالتالي يمكن القول اليوم أن ما حدث في سورية خلال السنوات الماضية ومازال يحدث إلي يومنا هذا من ظلم من قبل بعض القوي العظمي التي خربت بنيتها التحتية وشردت شعبها هو بالأساس نتيجة للرغبة في السيطرة علي النفوذ الإقليمي لإشباع رغباتها وأطماعها الإقتصادية التي تخدم مصالحها الشخصية فقط.
إن الحروب العصرية أخذت طابع جديد ومتنوع منها الحروب التي تدار بالوكالة عن طريق عصابات ومجموعة إرهابية أو عملاء والتي أغلبها تحقق للقوي العظمي انتصارات ضخمة بأقل خسائر ممكنة. كذلك الحروب الإعلامية والنفسية التي تشن عبر وسطاء قصد تأليب وتغليط الرأي العام المحلي والأجنبي وخلق الفوضي وبما يسموها هم ثورات الربيع العربي ونشر الديمقراطية، إلا أن هذا القناع سقط وتبين مدي سيطرة تلك القوي علي بعض الأنظمة السياسية والتحكم فيها عن بعد. أما الأخطر من مجمل تلك الحروب الحديثة نذكر الحروب الإقتصادية القادرة علي تدمير جميع هياكل الدولة عن طريق تخريب إقتصادها.
فالتجربة السابقة أثبتت بشاعة ما حصل في بعض الدول التي فرض عليها حصارا سابقا بحيث تسبب إرتفاع نسب التضخم السريع والرهيب وإنهيار العملات المحلية مقابلة سلة العملات الأجنبية في وصول النمو الإقتصادي إلي الحضيض ودون الصفر وكبح التنمية وهروب الإستثمارات الأجنبية المباشرة وبالتالي تأزم الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية والدخول في دوامة أزمات مالية حادة. بالعودة للحدث الرئيسي والأهم والذي هومحل صراع قائم حاليا بمنطقة الشرق الأوسط وذلك عبر بروز مصطلح جديد يسمي بحرب الغاز الإقتصادية بحيث أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهوعن خطة لحماية حقول الغاز بمياه البحر الأبيض المتوسط وذلك خلال زيارته المفاجئة مطلع سنة 2019 لتلك الحقول مع تكثيف التدريبات العسكرية الضخمة تحت شعار "الضرب بقبضة من حديد" علي كل إعتداء.
إذ هذا الملف الذي أخذ بعد سياسي دولي أصبحت تتشابك فيه المصالح الإقتصادية والعلاقات الدولية والدبلوماسية في ظل التطبيع الكلي لجل الدول الخليجية مع دولة إسرائيل. فقبل إندلاع الثورات العربية قدمت دولة قطر مشروع مد أنابيب الغاز عبر الأراضي السعودية ثم الأردنية مرورا بسوريا وتركيا قصد تصديره للإتحاد الأوروبي المستهلك الأكبر للغاز الطبيعي لكن فشلت الصفقة نظرا لتقارب مصالح الرئيس السوري بشار الأسد مع المصالح الروسية والإيرانية.
كما تقدمت تركيا في هذا الصدد سنة 2005 بإنشاء المشروع الضخم والمعروف "بنابوكتوللغاز" والذي شاركت فيه إسرائيل عبر تمثيل وزيرها السابق للطاقة والبني التحتية بنيامين باليعازر لكن تم تجميد ذلك المشروع لأسباب سياسية. فمن المعروف أن تركيا لا تملك الغاز بحيث لديها فقط ما يقارب 10% من إحتياطي الغاز الطبيعي بحيث يقتصر ذلك فقط علي الإستهلاك المحلي والسؤال المطروح لمن ذلك المشروع الذي يحمل إسم نبي إسرائيلي. فمع مطلع سنة 2011 تبين ذلك المخطط الإستراتيجي الكبير، بحيث تحولت دولة إسرائيل العظمي في ليلة وضحاها بعد الخراب العربي الكبير المعروف بالثورات العربية إلي إمبراطورية غاز طبيعي تملك أضخم احتياطي من الغاز لتتحول بذلك إلي أكبر مصدر لتلك الطاقة في منطقة الشرق الأوسط.
إذ انطلقت العملية باكتشاف مجموعة كبري من الحقول للغاز في البحر الأبيض المتوسط وهي إلي حد الآن مشكوك في ملكيتها نظرا لتقسيم المياه الإقليمية والإقتصادية وإحتساب أقرب نقطة في المسافة بين الحقل والأراضي الترابية بين قطاع غزة ومصر وقبرص ولبنان. نذكر من بين تلك الآبار الضخمة حقل الغاز نافياثان وهو حاليا الأكبر بحيث يحتوي علي أكثر من 400 مليار متر مكعب وحقل شمشون القريب جغرافيا من مصر، إلا أنهما حسب التقسيم الجغرافي يعودان إلي ملكية دولة مصر لكن قوة وغطرسة دولة إسرائيل انتصرت في تلك الصفقة الإستعمارية علي مصادر الطاقة.
أيضا حقل تمار القريب لسواحل لبنان والذي احتلته إسرائيل بتعلة أنه من اكتشافاتها أما الحقل الذي يعتبر الأبعد في مياه البحر الأبيض المتوسط وهو حقل ديفروت القريب من جزيرة قبرص والذي تعتبره إسرائيل أنه في نطاق مياهها الإقليمية ولا يمكن بأي حال من الأحوال بالتخلي عنه لصالح دولة قبرص. تلك الثروة الطبيعية الهائلة من إحتياطي الغاز حولت إسرائيل إلي أكبر دولة منتجة ومصدرة للغاز في منطقة الشرق الأوسط وربما ستكون المنافس الثاني مستقبلا لتصدير تلك الطاقة الخام بعد روسيا الإتحادية نحو المستهلك الأكبر عالميا دول الإتحاد الأوروبي.
لكن هنا يكمن مربط الفرس، فلمن ستصدر تلك الثروة الطبيعية الطائلة والتي ستعود لخزينة إسرائيل بالمليارات أوحتي بالتريليونات من الدولارات. ففي هذا الصدد تسارعت إنجازات المشاريع التخطيطية والإستراتيجية لمد خطوط أنابيب تصدير الغاز إلي الدول المجاورة مثل مصر والأردن. أما بخصوص دول الإتحاد الأوروبي تبقي المسافة هي العائق الرئيسي للتصدير إذ تشير الدراسات الحديثة في هذا المجال أن كلفة مد خط أنبوب غاز بحري مباشر إلي اليونان يتكلف قرابة 7 مليارات دولار ومدة زمنية لإنجاز المشروع تصل إلي 10 سنوات نظرا لبعد المسافة التي تصل إلي أكثر من 2200 كلم. أما بخصوص تصدير الغاز عبر جزيرة قبرص أولبنان أوسورية يعتبر مستحيلا نظرا لرفض ذلك الملف بحيث لا يعتبر شريك إقتصادي لدولة إسرائيل نظرا لتجريم التطبيع بين تلك الدول أو منافسة ذلك المشروع التصديري للغاز خاصة مع دولة قبرص.
فمؤخرا عقدت صفقة إقتصادية ضخمة لتصدير الغاز الإسرائيلي نحو مصر والذي إعتبارها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نصرا عظيما تم تحقيقه في عهدته ويوم عيد وطني لدولة إسرائيل العظمي وذلك بصفقة اقتصادية لتصدير 64 مليار متر مكعب من الغاز الإسرائيلي علي مدة 10 سنوات تقدر بمبلغ 15 مليار دولار.
أما المخزون الإسرائيلي من ذلك الغاز مازال كبيرا جدا ونتنياهو يحلم بإنجاز تاريخي له يعود علي شعب دولة إسرائيل بالرفاهية ويحولها إلي إمبراطورية إقتصادية ومصدر ثروة مالية ضخمة تجعلها مثل سويسرا يتمتع شعبها بدخل فردي خام مرتفع وممتاز.
ففي هذا الصدد تتحول القضية إلي صراع إقليمي في المنطقة برمتها نظرا لتشابك المصالح الإقتصادية بإعتبار روسيا المزود الرئيسي للإتحاد الأوروبي عبر غازبروم بنسبة 30% وأيضا لمنافسة مشروع الغاز الإسلامي الذي تعده حاليا إيران بالتنسيق مع روسيا وتركيا في إطار التحالف الدولي الثلاثي الحالي بين تلك الدول. إذ يعتبر مشروع تصدير الغاز الإيراني عبر الأراضي العراقية ثم التركية وإلي الإتحاد الأوروبي أقرب مشروع للإنجاز لكن يبقي هناك عائق وهو معبر الأراضي العراقية التي ترفض حاليا الحكومة مرور خط تلك الأنابيب لأسباب إقليمية وجغرافية. أما مشروع قطر فقد دفن نهائيا نظرا للأزمة القطرية مع الدول الخليجية وقطع جميع العلاقات الإقتصادية والدبلوماسية معها وفرض عليها حصار جائر عطل جميع مصالحها التجارية ونفوذها الإقليمي في المنطقة خاصة منها مشروع تصدير الغاز نحو الإتحاد الأوروبي.
فمصائب قوم عند قوما فوائد بحيث يبقي مشروع دولة إسرائيل العظمي في المنطقة بمخزونها من الغاز الطبيعي الكبير أقوي وأقرب مشروع للتنفيذ علي أرض الواقع. فمؤخرا تبنت شركة إماراتية إنجاز ذلك المشروع وزيارات وزير الخارجية الإسرائيلي يإسرائيل كاتس المتتالية لأبو ظبي والتطبيع العلني تندرج ضمن مشروع صفقة تصدير الغاز إلي دول الإتحاد الأوروبي. بالتالي تتحول تلك الدولة الصغيرة في الحجم في منطقة الشرق الأوسط إلي أكبر دولة منافسة للغاز الروسي.
فعلي الرغم من الصادرات الضخمة للغاز الروسي نحو دول الإتحاد الأوروبي، إلا أن هذا الأخير يحتاج إلي ضخ المزيد من الغاز خاصة عبر أنابيب الغاز النرويجي ومشروع المغرب للطاقة الذي يوفر كميات ضخمة من الغاز الإفريقي عبر أراضيها نحو إسبانيا ثم دول الإتحاد الأوروبي. لكن يبقي غاز منطقة الشرق الأوسط هو الأهم في تلك الصفقة الإقتصادية الضخمة بمليارات الدولارات والتي تشهد حربا حقيقية غير مباشرة بين إسرائيل وإيران وقطر،
ففي ذلك السياق وقعت دولة سورية ضحية لتلك التجاذبات والصراعات الإقليمية. كما أن أزمة دولة قطر مع دول مجلس التعاون الخليجي عطلت تنفيذ مشروعها الطموح وحول إهتمامها بتصدير الغاز الطبيعي عبر مد أنابيب غاز نحودول جنوب شرق آسيا والتي تعتبر سوق إقتصادية واعدة وصاعدة بحيث تحقق لها أرباح مالية ضخمة وصفقة تجارية محترمة.
أما الصراع الإيراني مازال قائم نظرا لتشبث هذا الأخير بتنفيذ مشروعه المسمي بخط أنابيب الغاز الإسلامي بالتنسيق مع تحالفه بين روسيا الإتحادية وتركيا العثمانية. فاليوم أصبح نتنياهويتباهي بالتطبيع الخليجي "العلني" من خلال زيارات مسئوليه لكل من سلطنة عمان والبحرين والإمارات العربية المتحدة والسعي لفتح قنصليات وسفارات وتمثيل دبلوماسي رفيع المستوي مع تلك الدول والأهم هو إفتخاره بمشروع مد خط للسكك الحديدية التي تنطلق من مدينة حيفا لتشمل السعودية والإمارات وبقية الدول الخليجية.
فالتطبيع أصبح واقعا ولم يعد سرا والتمثيل الدبلوماسي سيصبح من أولويات الحكومات الخليجية مع دولة إسرائيل خاصة بعد نتائج ورشة المنامة الإقتصادية بالبحرين لسنة 2019 تحت رعاية صهر الرئيس الأمريكي ترامب جارد كوشنير. بالتالي سيعود ذلك التطبيع الشامل والكامل والزيارات العلنية بين الدول الخليجية ودولة إسرائيل بثماره من أجل تصفية القضية الفلسطينية نهائيا وخلق عدو جديد مشترك وهوالخطر النووي الإيراني في المنطقة والتركيز علي المشاريع الإقتصادية الضخمة علي غرار مشروع "نيوم" والمصالح التجارية المشتركة.
عموما سيشكل الغاز الإسرائيلي في مياه البحر الأبيض المتوسط الحدث الإقتصادي البارز مستقبلا والذي سيحولها إلي نواة قوة في المنطقة بحيث ستضمن تفوقها علي جميع الدول الخليجية خاصة بعد ذلك التطبيع الخليجي الكبير ووضع دولة إيران الإسلامية في قفص الإتهامات الإقليمية والدولية ولربما سيشمل التطبيع قريبا دول عربية أخري بشمال إفريقيا.
* كاتب تونسي و باحث اقتصادي
Comments