بقلم الدكتور لويس حبيقة
حديث الساعة عالميا يدور اليوم حول أهمية الثروات الطبيعية من معدنية وزراعية، أي حول كيفية تأمين استمرارية العرض ومدى تأثيره على الأسعار. بما أن الدول النامية والناشئة تعتمد بشكل أساسي على ثروتها الطبيعية وقيمتها، تدخل أسواق الغنى الطبيعي ضمن سياسات التنمية والتطور بما فيها الأوضاع المعيشية العامة. تكمن أهمية الثروة الطبيعية اليوم في زمن العقوبات المنتشرة شمالا ويمينا ليس فقط على فينيزويلا وايران وانما على روسيا وكوريا الشمالية وكوبا وغيرها من الدول والمنظمات. التحدي العالمي هو كيفية الحفاظ على أسعار مقبولة عندما يتحدد العرض قسرا عبر العقوبات. هنالك موضوع أساسي آخر هو تأثير الثروة الطبيعية على النمو. هل الدول الغنية طبيعيا تنمو بسرعة أعلى أو أدنى من تلك التي لا تنعم بثروات طبيعية؟ هنالك مؤشرات معروفة تشير الى اتكالية الدول الغنية طبيعيا على ثرواتها، وبالتالي لا تبذل الجهد الكافي لتحقيق النمو العام. لكن هل يجوز التعميم في هذه الحالات؟ هل جميع الدول الغنية طبيعيا اتكالية؟ حكما لا.
اذا تكلمنا عن النفط تحديدا، نرى أن الدول النفطية تنمو بسرعة عندما تكون أسعار النفط مرتفعة. هذا لا يعني أنها تستعمل أموالها بعناية، بل ربما يعني أنها تنفق على الاستهلاك والاستيراد مما لا ينعكس ايجابا على الاقتصاد على المدى الطويل. عندما كانت أسعار النفط مرتفعة كما حصل في فترة 1960 1980، ارتفعت نسب الادخار الى 38% من الناتج في الدول المصدرة لها أي من 33% في الفترة التي سبقت والى 30% في الفترة التي تلت. يمكن مقارنة ال 38% بنسبة 18% لمجموع الدول النامية أي الضعف وهذا فارق مهم جدا. في فترة 1960 1980، ارتفعت نسبة نمو الناتج الفردي في الدول المصدرة للنفط الى 5,2% سنويا مقارنة ب 3% لمجموعة الدول النامية. مقارنة بالفترات الزمنية الأخرى وللدول النفطية، كانت 1,1% ما قبل 1960 وانحدرت سنويا أي حققت نموا سلبيا ما بعد 1980. كل هذا يعني أن الدول النفطية لا تشتثمر ثرواتها في الاقتصاد الانتاجي بل ترفع مستوى معيشتها عندما تكون أسعار النفط مرتفعة وتلجئ الى التقشف والاستدانة عندما تنخفض الأسعار. حكما ورأي الجميع أن هذه السياسات ليست فضلى لاقتصاديات الدول النفطية أولا ولجميع الدول الأخرى ثانيا.
هل أن تأثير أسعار المواد الأولية وفي طليعتها النفط يقتصر فقط على النمو أو يمتد الى أمور أخرى يمكن أن تكون أكثر أهمية كالمؤسسات والقوانين؟ تشير الوقائع الى أن الدول المعتمدة على الثروات الطبيعية تستورد الكثير وبالتالي تعاني من الضغط على الأسعار أي من التضخم الذي يصيب الفقراء أولا والطبقات الوسطى ثانيا. بسبب ارتفاع الطلب تتحسن قيمة النقد الوطني، لكن بعض هذه الدول ومنعا لارتفاع أسعار صرف نقدها تعتمد سياسات تثبت سعر الصرف اصطناعيا. يحصل هذا في الدول التي لا تعطي مصرفها المركزي استقلالية القرار، أو بالأحرى عندما يخضع مصرفها المركزي لسلطة الحكومة ووزارة المال تحديدا. هنا تكمن أهمية استقلالية المصرف المركزي التي تعتمدها الولايات المتحدة ومنطقة اليورو ولبنان والعديد من الدول الأخرى. لذا يحاول الرئيس ترامب اليوم دون نجاح اخضاع سلطة المصرف المركزي لادارته عبر محاولة تعيين محازبين له في مجلس الادارة. فشل لأن الحزبين الجمهوري والديموقراطي يريدان الحفاظ على الاستقلالية المتمثلة اليوم في الادارة الحكيمة ل"جي باول" رئيسه.
هنالك مؤشرات تقول بأن الدول الغنية طبيعيا لا تنتج سلع أو آليات جديدة أي لا يعتمد اقتصادها على الابداع وهذا يعيدنا الى موضوع الاتكالية المعروفة وغير المبررة على المدى الطويل. تنصب الجهود في تلك الدول على كيفية توزيع الثروة أو تقاسمها وليس على زيادة قيمتها أو تنويع ركائزها ومصادرها. هذا ربما يفيد على المدى القصير انما حكما مضر على المدى البعيد. كما أن هذه الدول تعاني من تقلبات الأسعار الكبيرة وبالتالي من عدم الاستقرار في الرؤية والتخطيط المستقبلي فيما يخص النمو والاستثمارات وحتى الاستهلاك. لا شك أن الدول الغنية طبيعيا تعاني الكثير من التقلبات المادية ومن عدم قدرتها البنيوية على التنوع والتغيير.
في الأمثلة تشير الاحصائيات الى أن دول كأنغولا ونيجيريا الغنيتان جدا لا تحققان نموا كبيرا متواصلا، بينما دول شرق أسيا على سبيل المثال طورت اقتصاداتها كما لم يحصل سابقا في التاريخ. يشير ما سبق الى صحة القول بأن الثروة الطبيعية تضر بسبب الاتكالية وعدم الرغبة في التجديد والابداع والتغيير. في الناتج المحلي النيجيري، تدنى في سنة 2016 وارتفع 0,8% في 2017 وربما لم يتعد 2% في 2018. التضخم مرتفع في حدود 16% والادخار قليل أي 14% من الناتج لكن ميزان الحساب الجاري فائض قليلا جدا. أما الموازنة فهي عاجزة في حدود 5% من الناتج مما يدعو للعجب والقلق نتيجة تفشي الهدر والفساد. المعروف أن نيجيريا رائدة فيهما منذ سنوات أو حتى عقود. الأوضاع لا تدعو للاطمئنان ولا شك أن توزع الدخل والثروة سيئان أي وجود طبقة صغيرة غنية جدا وطبقة واسعة فقيرة.
الأوضاع الأنغولية أفضل قليلا لأن النمو مستمر منذ سنة 2010 بمعدل 3% مع انحدار واحد في سنة 2016. نسب التضخم مرتفعة بمعدل 10% والموازنة تتأرجح بين العجز والفائض تبعا لتطور أسعار النفط. الفائض كبير 8,7% في سنة 2011 والعجز كبير في سنة 2014 مما يشير الى عدم الاستقرار والتقلبات وارتفاع المخاطر. كذلك الأمر بالنسبة الى ميزان الحساب الجاري المتأرجح بنفس الطريقة علما أن أوضاع الفساد أفضل قليلا من نيجيريا. أما نسبة الدين العام من الناتج فهي في حدود 73% في 2018 وهي مرتفعة في دولة لا تتمتع فقط بغنى النفط وانما بالعديد من الثروات الطبيعية الأخرى. لا شك أن الدول الأفريقية غير قادرة اليوم على انتاج ادارات سياسية تحكمها بشفافية ونزاهة لأن المحاسبة غائبة والشعوب لا تطالب بالتغيير كما حصل في مناطق أخرى. هنالك دائما استثناءات، الا أن أفريقيا عموما تعاني من اداراتها.
كي لا نحصر الموضوع في أفريقيا وحدها، نشير الى أن روسيا تعاني من نفس المشكلة وهي الغنية بالنفط وغيره وتعتبر دولة رائدة في ميادين عدة منها الانتاج الأمني والعسكري. تعرضها لعقوبات أميركية قاسية نتيجة العلاقات مع أوكرانيا لم يضرها كثيرا لكنه يؤثر عليها حكما عبر نسب نمو سلبية في سنتي 2015 و 2016 ونسب ضعيفة ايجابية فيما بعد. هنالك صادرات روسية كبيرة في المواد الغذائية والأسلحة تسبب فائضا في ميزان الحساب الجاري مما يجعل الدولة تتمتع باحتياطي نقدي كبير يقارب 500 مليار دولار في سنة 2018 أو 17 شهرا من الواردات وهي نسب صحية بل مرتفعة. لا يمكن وضع روسيا في خانة الدول الأفريقية نفسها انما يبقى اقتصادها معتمدا على المواد الأولية بشكل أساسي بالاضافة الى أسواق الاسلحة التي تعتمد بدورها على وجود خلافات كبيرة في جميع مناطق العالم بما فيها منطقتنا.
كيف يمكن انقاذ الوضع في الدول الغنية طبيعيا والفقيرة معيشيا وشعبيا. هنالك من يقترح توزيع الايرادات النفطية وغيرها مباشرة على الشعب أي تقسيمها على عدد المواطنين واعطائهم اياها مباشرة. فكرة جيدة لكن من يقوم بذلك؟ الحكومة لا، اذ هي مصدر المشكلة والداعمة للفساد والمستفيدة منه. جهاز دولي؟ من هو ومن أين نأتي به؟ الفكرة نظريا جيدة ويجب درسها اذ تبقى الثروات الطبيعية ملك الشعوب وليست ملك أقلية حاكمة منتخبة أو مفروضة عليها بحكم الواقع والتأييد الخارجي المستفيد ماليا وسياسيا. من الظلم جعل أكثرية شعبية في دول غنية تبقى فقيرة عندما تملك ثروات كبيرة يحسدها العالم عليها. الأضواء مسلطة اليوم على كل الدول في أدائها لكن المسؤولية الأولى تبقى على الشعوب نفسها التي يجب أن تطالب بحقوقها كاملة وعبر الوسائل الديموقراطية.
Comments