بقلم الدكتور لويس حبيقة
جميع الدول يرغب في التقدم والنمو والتطور. وجود قيادات واعية تسعى للوصول الى الأهداف الخيرة مهم جدا. هنالك مصلحة وطنية في تحسين مستوى المعيشة أي رفع معدل الدخل الفردي الذي يسمح للمواطن بالعيش الكريم. نوعية الحياة مهمة جدا أي خالية من التلوث. لا يمكن ان يعيش الانسان اليوم بكرامة في دول لا تحترم الحريات ولا تحارب الفساد ولا تسعى بكل السياسات الممكنة الى رفع الانتاجية وتشجيع الابداع والتجدد والابتكار. فالنمو الصحيح النوعي والدائم هو الذي يتحقق في نفس الوقت مع تطور الحقوق القانونية والسياسية والاجتماعية. أما الأمور المادية كتطوير البنية التحتية، فتكمل الحقوق لكنها لا يمكن أن تكون الأساس. تزامن التطور المادي مع الحقوقي يؤدي الى محاربة الفقر بنجاح عبر تطوير القطاعات الأساسية من زراعة وري كما مع الشركات المتوسطة والصغيرة كما الفردية.
ما هو واقع الأمن الغذائي اليوم؟ يتأرجح من فترة لأخرى بين المقبول والصعب. ما هي خصائص معاناة الأمن الغذائي؟ يتأثر بالأسعار حكما حيث عرف العالم ارتفاعا سابقا في الأسعار أضر بالفقراء. أحيانا تكون المشكلة في ارتفاع الطلب، لكن السبب الأهم هو تقلب العرض في الانتاج والنقل والتسويق. يتأثر بالمساحة الأرضية الصالحة للزراعة ومدى توافر المياه كما الأدوية والأسمدة الكافية. يتأثر بالمنافسة الدولية الحاصلة بين المنتجين الزراعيين حيث يشكل الغذاء عامل قوة كبيرة ومؤثرة. يتأثر الأمن الغذائي حتما بالأوضاع الأمنية حيث تنتشر الحروب في العديد من المساحات الخصبة. يتعرقل الانتاج والنقل والتسويق ويؤدي الى عدم توافر الغذاء محليا ودوليا مما يرفع الأسعار. أسباب الجوع معروفة وتسببها الحروب والتغيرات المناخية كما سؤ توزع الدخل والثروة بين المواطنين.
ما هي الخريطة الزراعية العالمية اليوم؟ هنالك شركات قليلة تسيطر على الأسواق. المزارع لا يحصل الا على القليل، أما الكثير فيذهب الى التاجر والشركات العملاقة العشرة التي تسيطر على النقل والتسويق وتتمتع بالخبرات الكبيرة والشبكات المادية المتخصصة. الشركات الكبرى غربية من "نستلي" الى "بيبسيكو" و"كوكا كولا" و"تايسون" و"كرافت هاينز" وغيرها. كانت الولايات المتحدة تشكل 23% من السوق الزراعي العالمي في سنة 1995 وأصبحت اليوم 14% لأن المناطق الأخرى كبرت وفي مقدمها أسيا والصين تحديدا. تصدر الولايات المتحدة حوالي 20% من انتاجها الزراعي وما زالت المصدرة الأولى عالميا للقمح والذرى والقطن وفي الطليعة في معظم السلع الأخرى. أما دول الوحدة الأوروبية فهي مهمة جدا في التجارة الغذائية العالمية بفضل قوة فرنسا وايطاليا وألمانيا. هذه دول زراعية أساسية ذات انتاج متنوع في معظم السلع. تستهلك الكثير وتصدر الكثير أيضا. أما روسيا فلا شك أنها مهمة جدا في صادرات الحبوب ولها وجود وحضور واضح في تلك الأسواق.
القطاع الزراعي مهم جدا لكن الأهم ضمنه هو الغذاء الركيزة الأساسية للحياة. هنالك سلسلة كبيرة من الخطوات تتكون من الانتاج حتى الاستهلاك. المواطن اليوم واع ليس فقط لتوافر السلع وأسعارها وانما للنوعية أيضا، حيث مواضيع الصحة والتلوث والأمراض المنتشرة هي في صلب اهتمامات المواطن والمجتمعات. فالتقنيات الانتاجية تتطور وتستفيد من تقدم العلوم والقطاعات الأخرى. أما تقنيات الانتاج فهي تحتاج دائما الى الرقابة لأن جشع المصنعين كما التجار يمكن أن يتفوق أحيانا على عمل الضمير وحسن الأخلاق.
أما الصين، فهي قوة اقتصادية عالمية أساسية غيرت المعادلات في كل القطاعات بما فيها الغذاء. قوة الصين تتأرجح بين الاقتصاد الأول أو الثاني تبعا للمعايير المعتمدة، لكن يبقى نفوذها قويا في كلتا الحالتين. زيادة الرئيس الصيني الأخيرة لـ ايطاليا وتوقيع عقود ضخمة في وقت تنعزل معه الولايات المتحدة تجاريا سيعطي الصين دفعا جديدا في التأثير الواضح على تطور الاقتصاد العالمي. "طريق الحرير" الجديدة مهمة جدا وستربط الصين أكثر بأوروبا وبقية القارات المجاورة. لا تملك الصين الا 700 متر مربع من الأرض لكل مواطن، مقابل معدل عالمي يبلغ 2100 متر مربع مما يشير الى ضيق الأراضي المتوافرة للشعب الصيني وبالتالي صعوبة تنشيط الزراعة عموما والغذاء خصوصا.
في الماضي، كانت الصين غنية في المياه، انما اليوم ومع الزيادات السكانية المعروفة والحاجات الزراعية بما فيها الري لم تعد كذلك. مع نمو المدن وتغير بل تطور أذواق المواطنين، زادت الحاجة الى المياه بمختلف استعمالاتها بالرغم من وجود أنهر كبيرة أهمها "يانغتزي". بالرغم من أن المواطن الصيني عموما محافظ ومتنبه لاستهلاكه، لكن هنالك حدود للتقشف في زمن يعرف الصيني كيف يعيش المواطن الغربي وكيف يبذر في كل شيء. مشاكل الصين المائية تبقى مترابطة أي متأثرة بالتلوث والتغير المناخي وسؤ الاستعمال وربما الافراط به، كما بتوسع الأرض الجاهزة للزراعة. فالمياه متأثرة كما في كل الدول بسؤ الاستعمال الطبيعي كما بسؤ الاستعمال الفردي والسكاني.
هل هنالك حلول لمشكلة المياه في الصين وبالتالي لمشاكل الري والشرب وبقية أنواع الاستعمالات؟ هنالك من يربط حل مشكلة المياه بالحلول السياسية والاجتماعية والانسانية كما الاقتصادية. هنالك من يقول بأن السياسيين الذين لا يستطيعون ادارة المواضيع البيئية هم غير مؤهلين لادارة الانسان والشعوب والدول. فادارة البيئة هي نوع من الامتحان لكيفية ادارة البشر ومصالحهم. قال ماوتسي تونغ "كل انسان هو جندي" أي متأهب دائما لخدمة الوطن والدفاع عن مصالحه. هل هنالك اهتمام كاف في الصين اليوم بالبيئة؟ عودة الى "زوينلاي" في سنة 1975 والذي كان أول رئيس وزراء للصين الشعبية (من 1949 حتى 1976) حيث قال أن على الصين أن تتطور في الاتجاهات الأربعة التالية أي الزراعة، الصناعة، العلوم والتكنولوجيا كما الدفاع. لم يأت على ذكر البيئة والتلوث والتغير المناخي. لا شك أن الأولويات كانت مختلفة والواضح التركيز على المادة والنمو الكمي.
قال "دينغ سياو بينغ"، الذي حكم الصين الشعبية من آخر السبعينات حتى سنة 1997، "أن الغنى المادي مجيد بل رائع". غير دينغ هيكلية الاقتصاد الصيني عبر الارتكاز على عاملين أساسيين هما أولا ادخال عامل السوق الى القطاع الزراعي مما جعل المزارع يربح وبالتالي يطور نفسه أكثر وأسرع وثانيا اتصل بالبنك الدولي طالبا المساعدة. لم تكن تحتاج الصين الى المال، بل الى المساعدات العلمية والتقنية وهذا ما حصل عليه لتطوير الاقتصاد الصيني. التواضع في طلب العلم والمساعدة ميز القائد الصيني التاريخي في فترة كانت تقود خلاله الدول الغربية وحتى الاتحاد السوفياتي مجموعة من المدعين بالمعرفة والعلم والنظرة المستقبلية الصحيحة. لم تكن هذه الدول تفكر يوما أن الصين ستكون هلى ما هي عليه اليوم، ولم تكن الكتب التي صدرت في وقتها عن الصين الا نوعا من الخيال والتوقعات وربما التمنيات.
لم تكن الأنظمة الرأسمالية أفضل من الصين من ناحية استهلاك المياه والاهتمام بالبيئة. تمت الاساءة الى النظافة البيئية في كل الدول، وها هو ترامب ينسحب اليوم من أهم الاتفاقية البيئية الموقعة قبله. لم تفضل الأنظمة الرأسمالية تاريخيا البيئة على التنمية، بل العكس كان صحيحا وها هي تحاول اليوم تنظيف الهواء والمياه وغيرهما قبل فوات الأوان. لم ترحم الأنظمة الرأسمالية الموارد المائية لديها بل أساءت استعمالها وهدرتها، وها هي تحاول التقنين اليوم. من الممكن أن تغير الخريطة المائية الدولية العلاقات بين الأمم في نوعيتها وعمقها وتحالفاتها. الجميع يتكلم اليوم عن النفط والغاز، لكن الصراع على الموارد المائية هو اهم وأخطر بكثير.
Comments