بقلم الدكتور لويس حبيقة
المعروف عن قطاعات المواد الأولية من زراعية ومعدنية انها تحمل في باطنها الكثير من الفساد. معظم المواد الأولية ينبع من أرض الريف ويستخرج ويذهب الى الاستهلاك في دول المنشأء كما يصدر الى الدول الطالبة. توزع الايرادات بين المنشأ والصناعي والموزع قبل أن تصل الى المستهلك. تكمن المشكلة هنا في أن حصة الريف هي الأدنى بالرغم من أنها مناطق المصدر أي انها تظلم في أسواقها. من هو المستفيد الأكبر من العملية؟ حكما التاجر الذي يلعب دورا كبيرا في نقل السلعة، انما حصته هي أكبر بكثير مما تقتضيه العملية. الريف يبقى فقيرا لكن أوضاع التجار أفضل حتى لا نقول جيدة. اذا هنالك تصحيح ضروري يجب أن يتم من ناحية الشفافية ليس فقط لتحقيق بعض العدالة وانما لابقاء الأسواق تعمل بفعالية وسرعة حماية للاقتصاد والمستهلك. أسواء ما يحصل أن تنقل الثروة الطبيعية من المنشأ في الدول النامية ليستفيد منها اقتصاد الدول الصناعية التي تنعم بالتنوع الاقتصادي الكبير. هذا الظلم يبدأ بل يستمر بفضل تعاون الفاسدين بين الدول. هي شبكة فساد كبيرة وقوية ولا ترحم.
بين المواد الأولية المختلفة، يتميز النفط الذي يحتاج اليه العالم أجمع بالرغم من التطور الحاصل في مصادر الطاقة البديلة. بالرغم من أن الولايات المتحدة طورت النفط الصخري وتلعب دورا أساسيا في تطوير تقنيات مصادر الطاقة الأخرى من شمسية ومائية وغيرها، الا أن دور دول الأوبيك ما زال كبيرا. فهي توجه أسواق الطاقة وتلعب دورا كبيرا في تحديد الأسعار. يبقى النفط ربما المادة الأولية الأهم في الاقتصاد العالمي ولم تنجح كل الاكتشافات العلمية في استبداله بمواد أخرى تنافسه في الفعالية والسعر. هنا تكمن أيضا قوة "لوبي" النفط وتأثيره على السياسات ليس فقط النفطية وانما مجموعة القرارات التي تتخذ على كل المستويات. لم يكن تعيين "ريكس تيللرسون" الرئيس السابق ل"اكسون موبيل" وزيرا للخارجية الأميركية مجرد صدفة، انما دليلا كبيرا على المعايير التي تعتمد في اختيار كبار المسؤولين في الولايات المتحدة وعالميا. لم يحسن تيللرسون الانتقال من تفكير الأعمال الى تفكير السياسة كما يرغب ترامب، فتمت اقالته واستبداله بشخصية ذات معايير مختلفة جدا.
تداخل المصالح النفطية بالسياسية والادارية كبير جدا. جميعها تشير الى قوة اللوبي النفطي العالمي وتأثيره على المعايير الصناعية والبيئية التي تعتمد في أميركا وخارجها. لا شك أن هذا التداخل بل هذا التأثير هو الفساد بحد ذاته، اذ يعني أن القرارات تتخذ لمصالح معينة حتى لو كانت جيدة أو غير مؤذية. هنالك أحيانا مصالح مختلفة أو معاكسة تؤثر على القرارات كالخلافات التي تحصل بين الشركات النفطية مثلا وتلك المنتجة للأدوات المنظفة للبيئة أو المخففة للتلوث. الاختلاف بالمصالح والأهداف ليس جديدا بل يحصل دائما ويتغطى بالمبادئ الأخلاقية والسياسية لكن تفسيره الأساسي مالي. تختلف هذه الشركات فيما بينها على أموال بمليارات الدولارات ولا تتقاعس في احداث مشاكل أو خلافات أو حروب لتأمين مصالحها على المدى الطويل خاصة. ليس خفيا على أحد أن معظم المشاكل الأمنية تحدث في دول غنية.
في الولايات المتحدة مثلا، نعلم جميعا العلاقات الممتازة التي كانت ركيزة حكمي الرئيسين بوش. تعززت هذه المصالح في الفترات الرئاسية الثلاث. نذكر جميعا أن الرئيس كلينتون في آخر يوم من ولايته الثانية أصدر عفوا بشأن "مارك ريتش" الذي كان رائدا في التجارات النفطية غير الشرعية لكنه استطاع الحصول على عطف الرئيس الأميركي غير النفطي بالشكل المباشر. نعلم جميعا قوة اللوبي النفطي العالمي في السياسة، لكنه قوي جدا أيضا في المساعدات والتبرعات وحتى في تمويل الاكتشافات العلمية وفي مختلف البحوث الطبية والاقتصادية وغيرها. هنالك أحيانا علاقات أكاديمية مشبوهة بين السياسيين والجامعات حيث تمنح شهادات عالية ك"دكتورا فخرية" لمسؤولين نفطيين لم يزوروا الجامعة ولم يمارسوا أي نشاط علمي أو أكاديمي. المال مقابل الشهادة، وهذا لا يصب حكما في صالح الجامعات ودورها. كما أن هنالك عمليات تبييض أموال، هنالك أيضا عمليات تبييض مسيرات سوداء ومحاولة تبييضها.
النفط هو سلاح مالي وسياسي وليس فقط مادة أولية. ما يحصل بشأن نفط العراق هو مؤلم اذ لم يستفد الشعب من الايرادات بل استفاد منها السياسيون في الداخل والخارج. استفادت منه الشركات النفطية العالمية التي تعزز دورها كثيرا خلال الاحتلال وما بعده. بعض العراقيين اعتقد أن مجرد وجود شركات نفطية عالمية كبيرة في العراق يعني أن الشعب سيستفيد من استخراج وتسويق هذه المادة. هذا ما يجب أن نتنبه له في لبنان أيضا، لأن الشركات الكبرى ستعزز وجودها لاكتشاف وثم استخراج الطاقة من الشواطئ اللبنانية. هل مقبول اليوم أن تكون شعوب الدول النفطية فقيرة والشركات النفطية غنية بفضل ثروات البلد وتشابك مصالحها مع السياسيين الفاسدين. بكل صراحة قال الرئيس ترامب انه كان على الولايات المتحدة أن تبقي على النفط العراقي لها مقابل الجهود والتضحيات العسكرية والأمنية والبشرية. لم يكن الاستثمار الأميركي في العراق في رأي الرئيس الأميركي مربحا.
في قطاعات المواد الأولية ومنها النفط حتما، هنالك شبكة مصالح مبنية على العلاقات العائلية والسياسية مما يبقي المنافع في أياد قليلة متحالفة ومرتبطة بعضها ببعض. تبقى هذه الشبكات سرية كي تستمر لفترات طويلة ويحرم منها المواطن. من ناحية أخرى، ما يبقى لشعوب الدول ينفق بطرق غير مدروسة أي يهدر ولا يبقى الا القليل للبنى التحتية والحاجات الاجتماعية وحتى الأجور. الشعوب النفطية في معظمها غنية بالاسم فقط، انما بالفعل تذهب الايرادات الى تمويل عمليات الفساد بكافة أشكالها. هذا يعني أيضا أن الوقائع تدل على أن هنالك علاقة سلبية بين الغنى الطبيعي والديموقراطية. مثلا، نيجيريا دولة غنية بالنفط والمواد الأخرى لكن المواطن فقير وتأثيره على مسيرة الدولة ضعيف. لننظر الى ما يحصل في فينزويلا، الدولة الغنية الكبيرة حيث يعيش المواطن في أسواء الظروف من دون كهرباء ومال وحتى سلع غذائية. المواطن الفنزويلي هو اليوم ضحية، ضحية الفساد والسياسة وسؤ الادارة.
ما قلناه لا ينطبق حكما على كل الدول النفطية. مثلا في النروج الغنية ينعم المواطن بكل الحقوق والخدمات ويعيش في مستويات عالية. في دولة الامارات، مؤشرات السعادة والأوضاع المعيشية مرتفعة وتعتبر مضرب مثل لما يجب أن تكون عليه كل الدول النامية والناشئة. التعميم يظلم ويكون خاطئا، الا أن الوقائع تشير الى وجود مشكلة تسمى "لعنة الثروة" حيث تتجاهل الدول الغنية طبيعيا التطور والنمو ولا تسعى الى تطوير الديموقراطية والحريات داخلها. الا أن هذا ليس صحيحا في كل الدول وفي جميع الأوقات. هل هنالك حلول؟ أي هل يمكن ضرب "لعنة الثروة" أو جعل الثروات الطبيعية تخدم المواطن ولا تساهم في قمعه؟ نقترح في تلك الدول أن توزع الايرادات النفطية مباشرة الى الشعب ولا تدخل في حسابات الدولة. ما يأتي من النفط يدخل في صندوق ثم يقسم بالتساوي على عدد السكان، اذ من المستحيل الفوز على الفساد الممتد من الداخل الى الخارج ومن ادارات الدولة الى القطاعات الخاصة. فهل هذا ممكن؟ نعم اذا حسنت النيات وتحت الرقابة الدولية المباشرة.
أخيرا، مشكلة الدول الغنية طبيعيا انها تهمل بناء المؤسسات والقوانين وتتكل على الايرادات النفطية أو غيرها لتمويل حاجات الدولة. اهمال البناء يعزز الفقر، يسيء الى توزع الدخل والثروة، يمول الفساد المتنوع ويقضي على النشاطات الديموقراطية. هنالك من يقول بأن الديموقراطية ضعيفة في روسيا بسبب وجود النفط، انما الحقيقة تشير الى غير ذلك أي الى وقائع وعوامل التاريخ والماضي والتجارب كما التنوع الاقتصادي.
Comments