فؤاد الصباغ
مازالت أزمة البريكست تعصف بدول الإتحاد الأوروبي و تنعكس تأثيراتها سلبا علي الأوضاع الإقتصادية البريطانية. إذ علي الرغم من طرح حكومة تيريزا ماي حزمة من الحوافز المالية و التجارية لخروج المملكة المتحدة العظمي من السوق الأوروبية المشتركة و الإتحاد الجمركي بمكاسب هامة, إلا أن الرفض لقرار هذا الخروج من قبل مجلس العموم هو الذي كان الطاغي علي مدي التداولات للثلاثية الأولي من سنة 2019. فمنذ إعلان الإنفصال رسميا سنة 2016 و دخول هذا القرار حيز التنفيذ خاصة بعد تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة في مارس 2017 و خروج نتائج الإستفتاء الشعبي الأول بالموافقة, إلا أنه لم يتم التوصل إلي حد الآن لإتفاق جدي يحفظ ماء وجه الإقتصاد البريطاني و يخرجه من محنته التي طال أمدها. إن هذا المأزق الإقتصادي يشكل تهديدا حقيقيا لمستقبل العلاقات البريطانية الأوروبية في تلك القارة العجوز و ذلك علي جميع الأصعدة من نمو إقتصادي و صرف للعملة و علي المبادلات التجارية و التي أغلب مؤشراتها تشير إلي تدهور سلبي متواصل. أما الإلتزامات المالية المشتركة و التي تقدر بـ 29 مليار جنيه إسترليني لحفظ التوازن الإقتصادي تعد هي أيضا ضربة مؤلمة في صميم الإقتصاد الوطني البريطاني و الذي من الممكن بدوره أن يستنزف المزيد من موارده المالية و يثقله بعبء الديون الخارجية في ظل تراكم العجز في الميزانية مما سينعكس سلبا علي مؤشر النمو الإقتصادي. فهذا الرفض المتواصل قصد الخروج من الفضاء الأوروبي المشترك عبر التصويت بالرفض من قبل أغلبية النواب داخل مجلس العموم البريطاني يعتبر في مضمونه فشلا كليا للسياسات الإقتصادية لحكومة رئيسة الوزراء تيريزا ماي خاصة مع بروز ملامح بوادر ركود إقتصادي في الأفق إذا تواصل هذا المأزق للبريكست. بالنتيجة سيكون هذا الخروج من ذلك الفضاء التجاري و المالي الموحد بمثابة صاعقة علي الإقتصاد البريطاني خاصة إذا تم الإتفاق بالطلاق بالتراضي و الخروج المذل بكف حنين لا يغني و لا يسم من جوع.
إن بريطانيا أصبحت اليوم تبحث عن مخرج جدي لهذه الأزمة التي طالت مفاوضاتها نظرا لتصاعد التذمر من قبل الأحزاب المعارضة و علي رأسهم زعيم حزب العمال البريطاني كوربن الذي دعي في العديد من المرات لسحب الثقة عن حكومة ماي و تجميد الخروج من الإتحاد الأوروبي. فالتمديد في موعد الخروج النهائي الذي كان مقررا في 29 مارس 2019 له أجندات إستراتيجية من أهمها المطالبة بحصد المزيد من التنازلات من الطرف الأوروبي مع كسب المزيد من الإمتيازات التفاضلية خاصة منها علي مستوي المعاملات المالية و التجارية المشتركة.
الخروج بدون إتفاق مرضي سيكون مكلفا جدا
إن إندماج الإقتصاد البريطاني في الفضاء الأوروبي المشترك يتمثل بالأساس في السياسة المالية و الإتحاد الجمركي المشترك. أما بخصوص السياسة النقدية لم يكن الإقتصاد البريطاني جزءا فيها بحيث كان الجنيه الإسترليني هو العملة الرسمية البريطانية المتداولة في الأسواق المالية بحيث كان البنك المركزي البريطاني يتمتع بإستقلالية تامة عن السياسة النقدية الأوروبية المشتركة. في المقابل يعد البنك المركزي الأوروبي بفرنكفورت الألمانية هو الموجه الرئيسي للسياسة النقدية الموحدة لمجموع 19 دولة تعتمد اليورو كعملة وطنية رسمية مشتركة داخل هذا الفضاء المالي و التجاري الحر. بالإضافة إلي ذلك تراهن إستراتيجية ذلك البنك علي إستقرار الأسعار داخل أسواقه الأوروبية مع تحديد نسبة فائدة مركزية تقدر ب 4.25% مع نسبة تضخم مالي منخفضة لا تتعدي 2%.
إذ يولي ذلك الفضاء أهمية كبري للمبادلات التجارية مع تعزيز سهولة الحركة للسلع و للبشر داخل دول أعضائه و التي بلغت إلي حدود سنة 2019 مجموع 29 دولة في فضاء أوروبي مشترك. كذلك تمثل السوق الأوروبية المشتركة و الإتحاد الجمركي المشترك نواة قوة إقتصادية كبري نظرا لتحديد أسعار منخفضة في المبادلات التجارية و المعاملات المالية مع تقديم بعض الإعفاءات الجمركية قصد تسهيل حركة نقل البضائع بين دوله. بالتالي سيكون خروج بريطانيا من هذا الفضاء المالي و التجاري الحر و الموحد مكلفا جدا ماليا و تجاريا خاصة إذا لم يتوصل مجلس العموم البريطاني إلي حلول جذرية لهذا المأزق الذي أرق الجميع و كاد أن يؤدي بدول العالم إلي أزمة مالية عالمية. إن عدوي الأزمات مثل الوباء فهي ممكن أن تنتقل بسرعة رهيبة عبر القنوات المالية و التجارية إلي كافة دول القارة الأوروبية و أيضا العالمية.
فالأسواق المالية تحكمها فقط الثقة و المعلومة, أما المبادلات التجارية فهي مرتبطة مباشرة بالإستثمارات و المعاملات المالية و طبقا لنظرية رأس المال جبان فأي تأثير سيسحق الجميع لأن المستثمرين يراهنون فقط علي الربح المالي الكبير و أي تأثير سلبي سيكون نتيجته الإنسحاب المفاجئ و السريع مما يتسبب بالنتيجة بتلك الأزمات في الأنظمة الرأسمالية.
فخروج بريطانيا بدون إتفاق مرضي خاصة علي مستوي تحديد الإمتيازات في المعاملات المالية و ضبط التسعيرات الجمركية ستكون نتائجه مكلفة جدا بحيث ستتضرر الأسواق المالية مباشرة مع إحتمال إنهيار كلي لصرف عملة الجنيه الإسترليني مقابل سلة العملات الأجنبية و خاصة منها مقابل الدولار و اليورو, مع إحتمال الدخول في مرحلة ركود إقتصادي متواصل مع الإنخفاض في المبادلات التجارية بإعتبارها دولة خارج هذا الفضاء المشترك بحيث ستتقلص إمتيازاتها المالية و التجارية. أما بخصوص حركة السلع و الأشخاص فهي أيضا ستتضرر بشكل ملحوظ نظرا لفرض بعض القيود خاصة منها إلغاء التأشيرات المعروفة بالشينغان و أيضا البطاقات الزرقاء الخاصة بالإطارات المهاجرة و ستنخفض نسبة تشغيل اليد العاملة البريطانية داخل هذا الفضاء الأوروبي.
تدهور المؤشرات الإقتصادية
وفقا للمؤشرات الإقتصادية إنعكس إعلان البريكست سنة 2016 علي الأوضاع الإقتصادية البريطانية سلبا بحيث تأثرت المبادلات التجارية علي مستوي الصادرات و الواردات بإنخفاض حاد ملحوظ بين سنة 2015 و 2016 مع تسجيل تراجع كلي لإجمالي التجارة من الناتج القومي الخام و ذلك مقارنة مع السنوات الماضية قبل الإعلان عن هذا الخروج من الفضاء المالي و التجاري الأوروبي المشترك. فهذا الضعف يعود إلي عدة عوامل منها التضرر التجاري الإجمالي من جانب بعض الدول من ناحية مع فقدان الثقة و الشفافية و المصداقية و ضعف المعلومات الإستشرافية في الأسواق خاصة مع إحتمال فرض رسوم جمركية جديدة في مبادلات السلع و نقل البضائع داخل التراب الأوروبي مع التدهور المتواصل لصرف الجنيه الإسترليني مقابل اليورو و سلعة العملات الأجنبية الأخري. بالإضافة إلي ذلك نلاحظ إنخفاض بشكل ملحوظ في نسبة النمو الإقتصادي مع إرتفاع نسبة التضخم المالي مما يتسبب بالنتيجة في إرتفاع الأسعار و في نسبة البطالة.
إذ بإعتبار أن تراكم الثروة الوطنية من الناتج المحلي الإجمالي يعزز من القدرة التنافسية و يضاعف الإنتاجية و يخلق مناخ إستثماري و تجاري مستقر, فالخروج من هذا الفضاء سيقلص بالنتيجة من هذا الدخل الخام الإجمالي و سيعيق النمو الإقتصادي و يكبح التنمية الإقتصادية خاصة إذا إنخفضت الإستثمارات و برز الركود في الأسواق المحلية.
أما بنسبة لهذا الإنخفاض الحاد في نسبة النمو الإقتصادي و الإرتفاع في التضخم له إنعكاسات سلبية مستقبلية ستحد من خلق فرص عمل جديدة و ستدخل بالإقتصاد الوطني البريطاني في مرحلة الإنكماش المستمر. كذلك بخصوص الإستثمارات الأجنبية المباشرة فهي أيضا تأثرت بشكل واضح سنة 2016 بحيث يعتبر رأس المال جبان وتطغي عليه الثقة و المعلومة المتداولة بالأسواق المحلية و الأوروبية بحيث لا يجازف المستثمر بماله في ظل الضبابية لمستقبل البريكست. إستنتاجا من المؤشرات الإقتصادية تتضح للجميع مدي خطورة المأزق الإقتصادي الإستشرافي الذي تعيشه الحكومة البريطانية الحالية بحيث تدهورت الأوضاع الإقتصادية كليا منها بالأساس النمو الإقتصادي مع الإرتفاع المتواصل للتضخم المالي, إلي جانب ذلك إنخفاض صرف الجنيه الإسترليني مقابل سلة العملات الأجنبية. فهذه النتائج تعتبر تبشير بإحتمال كبير لبروز أزمة مالية بريطانية و أوروبية, إذا تواصلت هذه المؤشرات في الإنخفاض و التي تعتبر من أهم المؤشرات التي تتشكل بواسطتها الأزمات المالية العالمية. إذ يعتبر خروج بريطانيا من الفضاء الأوروبي الموحد حق قانوني مكفول لها وفقا للمادة 50 معاهدة لشبونة بحيث يبقي الإنتظار الأخير لتأكيد هذا الخروج عبر التصويت في مجلس العموم البريطاني, إما الخروج بحزمة ضئيلة من الإمتيازات الإقتصادية و المالية و التجارية أو الطلاق بالتراضي و الخروج بكف حنين مما سيزيد من تعميق الأزمة الإقتصادية و سيؤدي إلي الإنزلاق نحو الهاوية و الركود الإقتصادي إذا خرجت المملكة المتحدة البريطانية العظمي بدون إتفاق مرضي.
Comments