الاستهلاك: حرية وتطور

03/14/2019 - 10:45 AM

Fadia Beauty Salon

 

 

بقلم الدكتور لويس حبيقة

لا شيء يمكن أن يصف تطور المجتمعات أكثر من الاستهلاك بقيمته وتوزعه.  لا شيء يمكن أن يميز المجتمعات بعضها من بعض أكثر من الاستهلاك.  هوية المجتمعات تظهر في استهلاكها ويمكن وصفها بالتالي بالتقليدية أو المتطورة.  في الحقيقة يعمل الانسان في حياته ليس فقط بسبب حب العمل والانتاج والتقدم وانما خاصة لتحسين وضعه المعيشي أي السلة الاستهلاكية التي يرغب ويستطيع شراءها.  الاستهلاك ليس موضوع اقتصادي فقط انما يشير الى الحريات الاستهلاكية التي تضيق أو تتوسع تبعا للمجتمعات المختلفة.  يشير الاستهلاك الى مدى تطور المجتمعات عبر الزمن ضمن الأطر القانونية والاجرائية والاقتصادية المتوافرة.  لا شك أن الاستهلاك يميز المجتمعات حتى داخل الدولة الواحدة حيث تختلف طبيعته تبعا للجغرافيا والثقافة والطقس والتقاليد وغيرها.

الاستهلاك مرتبط بشكل وثيق بالثقافة والمجتمع وطبيعة الانسان مما يميزه بشكل دقيق وواضح.  تحسين الاستهلاك، منه القدرة على استبدال السلع القديمة بدل اصلاحها، يشكل دافعا للعمل ويرفع الانتاجية.  ليس هنالك مجتمع لم تحصل داخله ثورة استهلاكية على مر الزمن غيرت معالم أسواقه وتطور حضارته.  يتطور الاستهلاك نتيجة تغير أوضاع الداخل كما نتيجة تغير العالم الخارجي المترابط حكما بفضل النقل والاتصالات وووسائل التواصل الاجتماعي.  هنالك دور كبير للاعلام في نقل تجارب المجتمعات عبر الدول والقارات وكم نتأثر به وبالاعلان الذي بلغ درجة كبرى من التطور يجعله يؤثر على كل منا.

تبلغ نسبة الانفاق الاعلاني من الناتج 2,5% في الولايات المتحدة مما يشير الى أهمية هذا القطاع المؤثر على كل القطاعات الأخرى.  تبلغ قيمة الانفاق الاعلاني لكل فرد سنويا 240$ في الولايات المتحدة، 200$ في سويسرا، 120$ في بريطانيا، 100$ في اليابان، 75$ في ايطاليا و 25$ في الأرجنتين.  تغير المحتوى الاعلاني مع الوقت كما طريقة توجيه الرسائل ونوعية السلع أو الخدمة مما يجعله قطاعا فريدا يمزج بين الفن والأدب والتقنيات المرتفعة.  تأثير الاعلان على الطلب كبير ولم تصل تقنيات الاعلان والدعاية يوما الى درجة الابداع التي وصلت اليه اليوم.  هنالك مجتمعات تأخذ بالكثير مما تسمعه وأخرى تكون انتقائية أكثر وذلك تبعا للأوضاع والحريات المتوافرة المختلفة.  تغير طبيعة السلع والخدمات نتيجة التقنيات والأذواق المختلفة تؤثر كثيرا على المستهلكين والسلة التي يختارونها.

في قطاع السيارات مثلا ومن سنة الى أخرى نجد أحيانا تغيرات كبيرة ليس في الشكل والمحتوى فقط وانما في المزايا الميكانيكية للسيارة مما يؤثر على الطلب الاستهلاكي للشباب والشابات.  تطور مزايا السلع الاستهلاية يجعل الانسان يشعر بالتقصير في تلبية الحاجات المختلفة، لكنه يدفعه في نفس الوقت الى العمل الجدي لتحسين أوضاعه المعيشية عبر العمل أكثر وأفضل.  في قطاع الملبوسات وتغير الأذواق، الأوضاع مماثلة وما نشهده السنة ربما يختلف كثيرا عن ما شاهدناه السنة الماضية خاصة في الملابس النسائية التي تجذب ميزانيات سنوية أعلى.  هنالك خصائص للقطاع الاستهلاكي العالمي نعرضها كما يلي:

أولا:  التأثير الأميركي الكبير على كل المجتمعات بدأ من الطعام وطرق تحضيره الى الخدمات الصحية والقانونية وغيرها وصولا الى طرق وحجم الانفاق الاعلامي والاعلاني الكبير.  من منا لا يشاهد الأفلام الأميركية التي تؤثر على حياتنا في ايجابياتها وسلبياتها؟  هنالك من يقول بأن الأفلام الأميركية دمرت الحضارات الوطنية كما اللغات.  يحاول الفرنسيون مثلا جاهدين أن يبقوا على حيوية لغتهم ونجحوا كثيرا، لكن المقاومة تبقى دائمة ولا يمكن التراخي بشأنها.  هنالك حضارات أخرى خسرت نفسها وتوجهت كليا نحو طريقة الاستهلاك الأميركي وما يتبعها من التأثير الحضاري واللغوي والاجتماعي والثقافي وغيرها.  من منا لا يأكل "الهامبرغر" و"البيتزا" وغيرها التي طورتها المطاعم الأميركية بشكل كبير وان نشأت أحيانا في أماكن أخرى؟  من منا لا يتأثر بالانتاج الأميركي في كل شيء بدأ من الاقتصاد الى الطب والعلوم والأداب وغيرها؟  من لا يتأثر بالموسيقى الأميركية الرائدة على مر العصور وهنالك قدرة انتاجية وابداعية فريدة لا بد من التنويه والاعجاب بها؟  الموسيقى الأميركية عابرة للقارات وتقرب المجتمعات ليس اليوم وانما منذ عقود.  من هي العائلات التي لم تتأثر بأفلام "ديزني" النوعية التي قربت الأذواق عند الأطفال.  التأثير الاميركي علينا جميعا كبير جدا ومن الصعب مقاومته حتى مقاومة ما لا نرغب في استيراده الى مجتمعاتنا.

ثانيا:  التأثير الدولي القوي العابر للقارات الذي ينشر طرق ومحتوى استهلاك أقوى من العادات الوطنية.  هذا التأثير ربما ينبع من دول عادية أو فقيرة وينتشر الى الدول الكبيرة بما فيها أميركا.  هنالك مأكولات انتشرت من منطقتنا الى كل الربوع العالمية مثلا "الحمص" و"التبولي" و"البقلاوة" و"الفلافل" التي نجدها أينما ذهبنا ليس فقط في المحلات ذات الأصول الشرق أوسطية وانما في كل المتاجر والمطاعم والملاهي.  أنتج هذا الترابط الاستهلاكي الدولي ترابطا أيضا في المطالب الشعبية منها زيادة الأجور وتحسين المنافع والحقوق وغيرها.  توحيد الاستهلاك يفرض أيضا توحيد الدخل وهذا في غاية الصعوبة مما يجعل المواطن العادي يغضب ويشعر أن حقوقه مسلوبة.  توحيد الاستهلاك دون توحيد القدرة الشرائية يؤدي في العديد من الأحيان الى عدم الاستقرار والشعور بالغضب كما يحصل الى حد بعيد في أوروبا وفرنسا مع "السترات الصفر" تحديدا.

ثالثا:  حرية الاستهلاك هي في غاية الأهمية.  يجب على المستهلك أن يختار ما يشأ وبالتالي أن تكون الخيارات واسعة أمامه في الأسواق.  لا شك أن للبناني الأصل "رالف نادر" دورا كبيرا في فرض حقوق المستهلك على الشركات والحكومات وله كتاب جديد اليوم في الأسواق يؤكد مجددا على هذه الحقوق الكبيرة.  يؤكد "نادر" دائما على سيادة المستهلكين وحقوقهم في طلب الأفضل بالأسعار الأدنى، فسبب ثورة استهلاكية عالمية بدأت منذ الستينات نتيجة صراعه مع "شركة جنرال موتورز" وامتدت الى كل القطاعات والدول والأزمان.

رابعا:  لا شك أن توافر السلع الاستهلاكية المنزلية كالبرادات والغسالات والمايكرويف وغيرها غيرت المجتمعات وسمحت للرجال وخاصة للنساء بتوفير أوقات أطول للحاجات المهمة جدا كتربية الاطفال، كما وفرت امكانية العمل من المنزل عبر الآلات والوسائل التقنية الحديثة.  توافر هذه السلع لم يؤثر فقط على الاستهلاك، انما أيضا على انتاجية العمل والقدرة على المساهمة في تطور المجتمعات من داخل المنزل.  سمحت هذه السلع للسيدات بالعمل من المنزل أي بالمساهمة في رفع دخل الأسرة لأن تكلفة الحياة الحديثة تتطلب عمل الرجل والمرأة لمحاولة تأمين تكلفة المعيشة والتعليم والصحة والنقل وغيرها.

لا شك ان الاستهلاك يعكس الثروة والتطور في المجتمعات.  تطور الاستهلاك في قيمته ونوعيته يؤدي مع الوقت الى نوع من الاستقرار والسعادة داخل الأفراد والمجتمعات.  لم تكن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي فقط عسكرية وسياسية، وانما أيضا استهلاكية حيت لم ينفجر الاتحاد السوفياتي الا بعد ان شعر المواطن بالتخلف الاستهلاكي الذي يفصله عن الغرب.  ظهر هذا الفارق مع الوقت بفضل الاعلام وطرق التواصل بين المجتمعات.  لم يصبح الاستهلاك مزدهرا في المجتمعات المتطورة الا بعد ان انتشرت وسائل التمويل السهلة عبر القروض الميسرة وبطاقات الائتمان لشراء السلع الأساسية من برادات وغسالات وغيرها والتي كان لأميركا الفضل الأكبر في تطوير تقنياتها العملية.

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment