bah الجريمة المصرفية المقوننة: لماذا لا يُحاسَب أحد؟ لبنان نحو تفكيك التواطؤ القانوني - المالي واستعادة الثقة الائتمانية - بيروت تايمز جريدة يومية لبنانية وعربية تصدر في اميركا Beirut Times Daily Lebanese newspaper

الجريمة المصرفية المقوننة: لماذا لا يُحاسَب أحد؟ لبنان نحو تفكيك التواطؤ القانوني - المالي واستعادة الثقة الائتمانية

04/23/2025 - 14:51 PM

Bt adv

 

 

 

المحامي الدكتور باسكال فؤاد ضاهر

 

في بلد صغير عانى طيلة عقود من تداخل المصالح السياسية مع الاقتصاد، كانت الفوضى المالية في لبنان نتيجة حتمية لتحالفات غير مشروعة بين النخب السياسية والقطاع المصرفي. إن الانهيار المالي الذي شهدته البلاد منذ عام 2019 ليس سوى إحدى حلقات مسلسل طويل من الانحرافات القانونية التي قادتها إدارة مصرف لبنان، في غياب تام لأي مساءلة قضائية حقيقية. ولكن، هل كانت الأزمة مفاجئة؟ أم أن ما جرى كان متوقعاً منذ زمن؟

الجواب الذي يجب أن نطرحه، لا يعكس سوى المأساة المستمرة التي يعاني منها الشعب اللبناني، بل ويكشف أيضاً عن سلسلة من الأخطاء المنهجية في التشريعات المالية وتطبيقاتها، مما يجعل من إعادة بناء الثقة الائتمانية أمراً ضرورياً لا بل حتمياً، إذا أراد لبنان النهوض مجدداً.

توصيف الأزمة: لا فجوة تشريعية بل انحراف في التطبيق

إن الأزمة المالية التي عصفت بلبنان لم تكن نتيجة حدث خارجي مفاجئ أو ما يعرف بـ"البجعة السوداء"، بل هي ثمرة تراكم أخطاء فادحة في تطبيق القوانين والسياسات المالية والمصرفية على مدار سنوات. على الرغم من أن القطاع المصرفي كان يتمتع بنوع من الهيمنة الاقتصادية، إلا أن هذه الهيمنة لم تكن قائمة على أسس قانونية سليمة، بل على انتهاك صارخ للقوانين في بعض الأحيان.

ما يميز هذه الأزمة هو أنها صُنعت داخلياً، حيث تضافرت جهود بعض المصارف مع سياسات مصرف لبنان لتشجيع عملية استقطاب غير قانوني للودائع، وبالتوازي مع ذلك، كانت السلطات الحكومية تفرّغ المؤسسات القضائية من مضمونها من خلال تواطؤ سياسي يستهدف الحفاظ على الوضع القائم.

إذا كان من الضروري تشخيص الأزمة، فالأمر لا يتوقف عند نقص تشريعي كما يروّج البعض. في الحقيقة، نحن أمام انحرافات خطيرة في تطبيق القانون، انعكست سلباً على كل القطاعات المالية والاقتصادية في لبنان، من دون أن يُحاسب المسؤولون عن هذه الانتهاكات.

من أزمة الثقة إلى خارطة للتعافي

لبنان اليوم بحاجة إلى إعادة بناء الثقة الائتمانية بين المصارف والمواطنين، وبين الدولة والمجتمع الدولي. إن الثقة هي الأساس الذي يعتمد عليه كل شيء: من عودة الاستثمارات الأجنبية، إلى استعادة المودعين أموالهم. لذا فإن إعلان أنّ الودائع ستعود لأصحابها وأنّ دولة القانون ستنطلق وأنّ القضاء سيقوم بمهامه، سيؤدي حكماً إلى رفع الثقة الإئتمانية التي يجب أن تترافق مع إرسال إشارات إيجابية ترمي إلى استقطاب المال الدولي الذي يتبع قاعدة أنه لا يستكين إلا لدولة القانون، وذلك من خلال إتّباع الإجراءات التالية:

  • أولاً: الشفافية والمساءلة

إن إعادة بناء الثقة تبدأ من الشفافية، وليس هناك طريق آخر سوى محاسبة المسؤولين عن الانهيار المالي. يجب أن تُفتح ملفات الفساد في القطاعين المالي والمصرفي بشكلٍ شامل وشفاف، كما يجب تشكيل لجان تحقيق مستقلة، تُشرف على تدقيق العمليات المصرفية المشبوهة، وتحدد المسؤوليات السياسية والمصرفية عن الانهيار.

إنَّ التحقيقات القضائية والمحاسبة يجب أن تكون جزءاً من عملية بناء الدولة في لبنان، ولا يمكن للقضاء أن يظل على حاله من التواطؤ السياسي، بل يجب أن يُقرّ قانونياً استقلاليته، ويُسمح له بمحاكمة كل من تورط في الجرائم المالية الكبرى.

  • ثانياً: تفكيك الآليات التي أنتجت الانهيار

لا يمكن الحديث عن إصلاح القطاع المصرفي دون تفكيك الآليات المالية التي قادت إلى الانهيار. في قلب هذا الأمر يقف إجراء تدقيق مالي شامل في جميع المصارف اللبنانية، يستعين بشركات تدقيق دولية مستقلة أو بلجان متخصصة، تأخذ في الاعتبار العمليات المشبوهة وأيضاً تحليل الممارسات المصرفية التي فاقمت الأزمة.

يجب إعادة دراسة التعاميم الصادرة عن مصرف لبنان المتناقضة مع أحكام قانون النقد والتسليف والتي أسّست للوصول إلى ما نحن عليه، لا سيّما وأنها رمت في مرحلةٍ أولى إلى تهيئة الأسباب للوصول إلى الأزمة من خلال استقطابٍ غير قانوني للودائع الدولارية، ويمكن حصرها بالتعاميم التالية: المقاصة بالدولار؛ شهادات الإيداع؛ التوظيفات الإلزامية؛ والهندسات المالية. ومن ثمّ، وفي مرحلةٍ ثانية، كتلة التعاميم التي صدرت بعد العام 2019 والتي رمت إلى تحوير وتمويه الإرتكابات وتحميلها لغير مرتكبيها وترتيب النتائج عن عمليات الترابح غير المشروع الذي حصل.

  • ثالثاً: إعادة هيكلة القطاع المصرفي

هي خطوة حاسمة لعودة الاستقرار المالي في لبنان. يجب تحديد المصارف التي تشكل تهديداً للنظام المالي ودمجها مع مصارف أخرى قويّة سنداً لأحكام القانون الرقم 192 لعام 93 المعدّل بموجب القانون الرقم 675 لعام 2005 الذي يمنح تحفيزات ضخمة للمصارف. كما يجب إعادة رسملتها عبر التمويل الذاتي وفرض إعادة الأموال التي حُوِّلت إلى الخارج من قِبل القطاع المصرفي والجهات المعرّضة سياسياً وتلك الواقع عليها تعريف جرم Délit d’initié والتي حصلت بشكلٍ استنسابي فاضح خارق لقاعدة المساواة.

هذا إضافة إلى اعتماد فصل جامد بين المصارف التجارية ومصارف الأعمال، ومنع أيّة فئة من التداخل مع الأخرى، تطبيقاً لأحكام المادة /121/ المعطوفة على أحكام المادة /156/ من قانون النقد والتسليف.

ناهيك عن تنظيم القروض بما يضمن استدامة النظام المصرفي ويحافظ على السيولة النقدية، وتقييم حجم الديون الخارجية والداخلية، والتفاوض مع الدائنين، واعتماد خيارات إعادة الهيكلة المنصوص عليها في كتلة المشروعية اللبنانية.

  • رابعاً: تعزيز الرقابة المالية والامتثال الدولي

لبنان بحاجة إلى إصلاح هيكلي شامل في الرقابة المالية من خلال تعديل قانون هيئة الرقابة على المصارف لتأكيد منع أي انحراف مستقبلي، كما وقانون هيئة التحقيق الخاصة بهدف فصل رئاسة هيئة التحقيق الخاصة عن حاكم مصرف لبنان، وأن تكون العضوية فيها متجانسة تماماً مع متطلبات والتوصيات الدولية مثل FATF، وبالتالي منفصلةً عن جميع ما هو متصل بالنظام القضائي والمالي والمصرفي، على أن تؤلَّف من ثلاثة أشخاص (رقم مفرد) من ذوي الخبرة بهدف ضمان وضبط تطبيق القوانين والمعايير الدولية المالية والمصرفية أسوةً بفرنسا. وبالتالي لا يمكن أن نواصل السير في ذات الطريق المظلم من التستر على الفساد من خلال التعيينات السياسية التي عرقلت جهود مكافحة المال الفاسد.

  • خامساً: ترشيد الإدارة العامة وبناء الثقة الدولية

على لبنان أن يتجه نحو إصلاح الإدارة العامة عبر تطبيق أدوات أكثر فعالية ومفاهيم حديثة بعلم الإدارة مثل الـAPI والـAAI في القطاع الحكومي، من أجل زيادة الكفاءة وتحقيق الشفافية. كما أن العمل على استعادة الثقة الدولية يتطلب إعلانات واضحة بشأن الإصلاحات المستقبلية، مع آليات متابعة دقيقة وشفافة لضمان تنفيذها.

وعليه، لا بدّ من العمل على جذب أموال من شراكات مع مستثمرين دوليين، مع ضمان أنّ المصارف تصبح أكثر قدرة على تحمّل المخاطر.

هذا إضافة إلى التوّجه نحو التكنولوجيا المالية لتسهيل عمليات الدفع والتحويلات، وزيادة الشفافية وتحسين وصول المواطنين إلى الخدمات المصرفية، مع التوجّه نحو أسواق العملات الرقمية، ولاحقاً إنشاء عملة رقمية من مصرف لبنان CBDC سواء Retail CBDC أو Wholesale CBDC.

إنّ المباشرة بالإعلان والعمل وفق ما تقدّم يعزّز سكّة الإصلاحات الواضحة والمعلنة مع آلية لمتابعة تنفيذها، مما يساهم في تحسين العلاقات مع المجتمع الدولي ويشجّع على عودة الإستثمارات الأجنبية. فاللبنانيون والعالم بحاجة إلى أن يروا أن لبنان قد قرّر أخيراً العودة إلى الطريق الصحيح

نحو دولة القانون لا دولة المصارف

إذا كان الانهيار المالي الذي شهده لبنان هو نتاج تواطؤ بين السلطة السياسية والمصارف، فإن الخروج منه يتطلب تفكيك هذه العلاقة وإعادة ترتيب المؤسسات بشكل عادل. إنَّ النهوض بلبنان ليس فقط مسؤولية المصارف بل مسؤولية الدولة بأسرها التي يجب أن تستعيد سيادتها القانونية على كل مفاصل الاقتصاد والمجتمع.

وبالتالي فإن إصلاح النظام المالي والمصرفي ليس مسألة "تحسين أرقام" فحسب، بل مسألة إعادة بناء الثقة في قلب النظام السياسي والاقتصادي اللبناني. لا يمكن أن ينجح هذا الإصلاح دون محاسبة فعالة، وتدابير قوية للشفافية، وإصلاحات هيكلية في النظام القضائي. من خلال هذه الإجراءات، يمكن للبنان أن يستعيد مكانته كمركز مالي إقليمي، وتبقى هذه الإجراءات الخطوة الأولى في سلسلة من الإصلاحات الشاملة التي تضع لبنان على الطريق الصحيح نحو التعافي.

في الختام، نؤكد أن ما ورد أعلاه يشكّل بعض الإجراءات الجوهرية التي تُعتبر سلسلةً من ضمن المرحلة الأولى من مشروع إعادة الإنتظام القانوني المالي والمصرفي، والتي من شأنها أن تنعكس إيجاباً على رفد عامل الثقة الإئتمانية بما يحتاجه من مسبّبات ليعود إلى طبيعته الصحيحة، وذلك مع التشديد على أنّ المرحلة الأولى يجب أن تُستتبع بمرحلةٍ ثانية وأخرى ثالثة ضمن نطاق خطّة ثلاثيّة مجزّأة إلى أقسام.

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment