بقلم الدكتور لويس حبيقة
التضخم هو الداء الاقتصادي الاجتماعي العالمي الأخطر. مشكلته أنه نابع ليس فقط من السياسات الكلاسيكية المالية والنقدية المتهورة بل من حرب تشغل العالم كما من الكورونا التي حققت في الاقتصادات والشعوب اصابات بالغة. تأثير الحرب الأوكرانية على أسعار الغذاء والمحروقات والمعادن لم يولع التضخم فقط، بل جعل كل السياسات المحاربة العادية غير فاعلة وبالتالي يشعر المسؤولون السياسيون بالعجز حتى في الدول الصناعية. من نتائج الأوضاع الحالية محاولة كل الدول اغلاق اقتصاداتها عبر سياسات حمائية ظننا أنها من الماضي.
في الولايات المتحدة كان المصرف المركزي منذ أكثر من سنة يشعر بأن الاقتصاد يعمل دون طاقته الأعلى، وبالتالي التضخم بعيد ولا ضرورة لرفع الفوائد وتخفيف حجم الكتلة النقدية للمواجهة. كان المصرف المركزي الأميركي يصف الاقتصاد بالخاسر نتيجة وجود بطالة مرتفعة غير مبررة وضعف في النمو لا يفسر الا بالعجز السياسي والاقتصادي. عبر السياسات النقدية المعتمدة ارتفع حجم ميزانية المصرف المركزي من 900 مليار دولار في 2008 قبل الأزمة الى 4,5 ألف مليار في 2015 والى 9 ألاف مليار دولار مما فرض تقليصها لضرب التضخم.
كان الانطباع العام يؤكد على أن المصرف المركزي يعرف ماذا يعمل ولم تحصل ضغوط مهنية وشعبية لمعالجة مرض خفي. تبين للمصرف المركزي لاحقا أخطاء التقييم وأدرك أن هنالك ضرورة لتغيير المواجهة باتجاه التضخم. لذا تم رفع الفائدة الأميركية عدة مرات بسرعة بسبب استمرار التوقعات التضخمية التي تساهم في رفع مؤشر الأسعار. هنالك خوف أساسي ناتج عن التجارب السابقة أي خطر الوقوع في حلقة أسعار - أجور تضخمية لا تنتهي. لذا يجب ضرب هذه الحلقة السوداء قبل أن تبدأ، فتم رفع الفوائد.
بدأت الفوائد الأميركية بالارتفاع وكذلك فوائد العملات المرتبطة بالدولار كنقد دول مجلس التعاون الخليجي. رفع المركزي الانكليزي فائدته وكذلك المصرف المركزي الأوروبي وغيرهما. مشكلة أوروبا مختلفة، حيث رفع الفوائد يرفع تكلفة الديون العامة وبالتالي تتأذى الدول المستدينة كاليونان وايطاليا. من المتوقع أيضا أن يبدأ المستثمرون بوضع أموالهم في الأسواق النقدية والأدوات المتخصصة الخطرة للاستفادة من الفوائد المرتفعة اسميا والمتدنية في الحقيقة لأن الفائدة تبقى أدنى من مؤشر ارتفاع الأسعار. هنالك خسارة لكن ذلك يبقى أفضل من ابقاء الأموال نقدا في المنازل والخزنات الحديدية.
التحدي الأكبر الذي يواجه المصارف المركزية هو مدى استمرار سياسة رفع الفوائد دون أن يسبب ذلك الركود وارتفاع البطالة وسقوط البورصات، وهذه تحديات في غاية الصعوبة والدقة. نسبة البطالة في الولايات المتحدة ما زالت منخفضة ويمكن التعايش معها والتركيز حاليا على العدو التضخمي. نجاح الرئيس بايدن في تخطي مشكلة سقف الدين العام بالتعاون مع الجمهوريين يعطيه أرجحية في التجديد في 2024 خاصة مع المشاكل القانونية المتزايدة لترامب. حجم الاقتصاد العالمي يجعل أي سياسات وطنية عاجزة عن تحقيق النجاح. لا بد من سياسات مشتركة تؤثر في نفس الاتجاهات.
Comments