bah أمام العرش مرة ثانية - دراسة تاريخية موثقة عن عصر أنور السادات - بيروت تايمز جريدة يومية لبنانية وعربية تصدر في اميركا Beirut Times Daily Lebanese newspaper

أمام العرش مرة ثانية - دراسة تاريخية موثقة عن عصر أنور السادات

11/26/2018 - 03:28 AM

absolute collision

 

عادل صوما

 

تقديم

 حين قرأت كتاب "امام العرش"، بعثت رسالة من لبنان إلى استاذنا نجيب محفوظ، اسأله فيها إعادة كتابة القسم الخاص بالرئيس أنور السادات، ولم اتوقع الرد الذي جاءني منه بتاتا، ومرفق صورة عنه قبل التقديم، لأنه تشريف رفيع من رجل ذي قيمة وتواضع اعتز به ولا يسقط بمرور الايام.

تأخر صدور كتاب "أمام العرش مرة ثانية"، منذ تاريخ رسالة الاستاذ محفوظ حتى اليوم، لأن إعادة إلتماس النظر تعني قانونا، تقديم حقائق أو معطيات جديدة للمحكمة، لم تكن متوافرة أثناء نظر الدعوى ابتدائيا، وبناء على الجديد من حقائق أو شهادات الشهود، تتغير عقيدة المحكمة في الحكم، ما يعني ان الانتظار لمدة ربع قرن كان حتميا لرؤية وقائع جديدة على ارض الشرق الاوسط، حول الاتهامات للرئيس الراحل التي سادت بعد توقيعه إتفاقية كامب ديفيد، ومعاهدة السلام، رغم سير الجميع بعد ذلك على خطى "صلحه المنفرد" كما زعموا، إضافة إلى دوره بالغ الأهمية في بعث حركة الاخوان المسلمين من قبور النسيان، ومنحها زخم الانتشار مصريا ما جعلها تنتشر عربيا وعالميا بشكل كبير. تلك الحركة التي اثارت الفتن الطائفية بمصر في عهده، وتمخض عن فقهها تنظيمات اخرى أشد تزمتا ادت إلى إغتياله هو شخصياً، إضافة إلى تصدعات في نسيج الجسد المصري حدثت في عهده وبعده وحتى الآن.

كان املي ان يُنشر الكتاب في طبعة ورقية في الذكرى الثلاثين لإغتيال الرئيس السادات ومئوية ميلاد الروائي الكبير في 11 كانون الاول/ديسمبر1911، لكن ظروف مصر سنة 2011 لم تسمح بتحقيق ذلك الامل، ثم انتظرت حتى حانت ظروف طباعته.

 كتبت "أمام العرش مرة ثانية" بطريقة تلائم قراء ربما لم يعرفوا الرئيس أو لم يشاهدوه، أو نسوا تفاصيل ايام مصر اثناء فترة رئاسته، وكانت الفصول الاولى بمثابة مستندات إعادة التماس النظر، وعرض موجز لأهم إنجازات الرئيس ومفاصل عصره، أمّا الفصل الاخير فهو مثوله مرة اخيرة أمام المحكمة الفرعونية التي اتخذت قرارا مخالفا لما ورد في "امام العرش الاول".

 بدأتُ كتابة "أمام العرش مرة ثانية" بسطور الافتتاحية نفسها تقريبا، التي كتبها استاذنا نجيب محفوظ، ووردت بعض الاسماء السياسية كما هي بلغتها، وليس كما يتداولها الاعلام، كما استخدمتُ العامية احيانا لأنني رأيتها أقدر على التعبير عن لحظة الموقف، ولأن العبارة وردت هكذا على لسان صاحبها ويستحيل صياغتها بالفصحى مع الحفاظ على معناها.

 شهادات الشهود الذين مَثَلوا في قاعة المحكمة وردت بما قالوا حرفيا، أو بما ذكروا في كتبهم، واحيانا ما كتبه الثقاة عنهم، أو بجزء من مدارات تفكيرهم كانوا سيقولونه لو وقفوا امام الإله أوزوريس، أو ما أدلوا به في حواراتهم الاعلامية، وجاءت شهادات وتعليقات بعض الحاضرين في جلسة اعاة التماس النظر بما يتناسب مع سياق العمل الدرامي، وليس وفق اهميتهم في الحياة.

 كانت شخصيات "أمام العرش" مصرية صرفة، لأن فكرة "أمام العرش" هي مثول حكام مصر أمام المحكمة الفرعونية في الحياة الاخرى، بينما شخصيات "أمام العرش مرة ثانية" من مصر وخارجها، لتلائم المحتوى الجديد، وسيلاحظ القارىء حضور احياء ومن غيبهم الموت معا في الجلسة من اجل الغرض نفسه.

 بعض النصوص المقدسة المرفقة في الجزء الخاص باعادة إلتماس النظر، وردت في كتاب "الظهور في النهار" أو ما يُعرف شعبيا باسم "كتاب الموتى الفرعوني"، وجعلتُ الرئيس أنور السادات يدخل قاعة المحكمة الإلهية يرافقه "حابي" إله النيل، بدلا من "أنوبيس" الإله حامي الموتى، الذي يرافقهم عند دخول المحكمة الإلهية بعد الموت، لأننا أمام إعادة إلتماس النظر في حكم صدر سابقا. كما ورد اسم انور السادات، مرتبطا باسم الإله المصري أوزوريس؛ أنور السادات أوزوريس، تماثلا بالنصوص الجنائزية الفرعونية.

 قد يبدو لأول وهلة بعض ما جاء من امور في مستندات إعاد إلتماس النظر غير منطقية، نظرا لتراكم معلومات سياسية غير صحيحة في الذاكرة الشعبية العربية، وإنتقالها من عصر لآخر، شفاهة او بواسطة

الترديد الاعلامي السلطوي متجاهل الوقائع التي تضر وجوده، المتمسك بخداعات تحوير الوقائع لتلائم ديمومة نظامه ويافطاته، التي تختلف جوهريا عن سياساته على الارض.

 وربما يشعر بعض القراء بعد قراءة الكتاب ان امرا ناقصا لم يرد ذكره، أو بالضيق والاحباط، وقد يكون السبب هو عدم تحقق السلام بين الشعوب رغم توقيع إتفاقيات بين السياسيين، وان صاحب المبادرة الاولى نفسه ربما اراد ان يكون المُصلح مارتن لوثر عند المسلمين بخطوته الانسانية الرائدة فلاقى مصيرالحلاج!

 وبما ان الكتاب احاديث ضمائر امام الإله أوزوريس، اقول أن هذا الاحباط قد عانيته شخصيا إضافة إلى خيبة امل آخري، فقد عرضت إنتاج الكتاب في الشرق الاوسط أو ترجمته ونشره في الولايات المتحدة، على هيئات دولية وأميركية معنية بالسلام أو بحوار الاديان، وكانت ردودهم التملص بعد ان ذكرت لهم مضمونه، رغم ان تكلفته لا توازي مطلقا دعوة عشاء عبر البحار لشخص واحد فقط، للحديث عن السلام بكلام منمق ديبلوماسي لا يخدش سمعة منتجي السلاح وسماسرته، أو وقاحة بائعي أسهم الاوطان في بورصة "وول ستريت" وفروعها، لحضور يتثاسمون*.

 أذهلني عدم رد الرئيس الاميركي جيمي كارتر ومؤسسته غير الربحية على طلبي تمويل ترجمة الكتاب ونشره على موقعها بدون أي حقوق نشر مالية لي، نظرا للدور الذي قام به هذا الرئيس في إتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام. كما لم اجد أي تفسير منطقي لتملص عميد جامعة مريلاند، التي تتميز عن جامعات العالم كافة بوجود قسم لدراسة السلام فيها، إضافة إلى عمل السيدة جيهان صفوت رؤوف زوجة أنور السادات في أحد اقسامها لعقدين على الأقل، تمويل إنتاج الكتاب في دار نشر بالشرق الاوسط، عن طريق القول بانهم لا يملكون مطبعة لطباعة كتاب في مريلاند!

قالت مؤسسة بيل غيتس انها لا تهتم سوى بتمويل الكتب التعليمية والعلمية، وعندما دخل شبلي تلحمي رئيس قسم الدراسات السياسية والسلام في الجامعة نفسها في بيات شتوي، بعد تلقيه رسالتي الألكترونية على بريده الخاص الذي إتخد فيه إسم "سادات" عنوانه حبا وإحتراما، تأكد لي ان السلام بين الشعوب مجرد شعار غير حقيقي دونه عقبات كبيرة تعيق تحقيقه، وأن أنور السادات بحسناته وسيئاته لم ينتم إلى احد بل إلى نفسه وضميره، لذلك هو ضمنا وعن قصد وغير قصد "تابوه" محظور اللمس والتذكر، حتى لأفراد عائلته، ما دفعني إلى تجاوز أمرين تعلمتهما من الرئيس الراحل والاستاذ نجيب محفوظ، وهما الامل ورؤية الامور حين تتشابك من زاوية مختلفة.

 تخليت عن الامل الواهم بتمويل الكتاب في الولايات المتحدة، وسُعدتُ باصداره بطبعة ورقية في مصر بعد ان وافقت مؤسسة حكومية على مضمونه ومن ثمة قررت تمويله، لكن الظروف شاءت ان اقدم النص النهائي قبل إسبوع فقط من احداث الخامس والعشرين من كانون أول/يناير 2011، لينال تصريح النشر ومن ثمة يُنشر، لكن الشلل الذي اصاب عقل مصر واعصابها، جعل كل الامور غير مهيئة سوى لما حدث بعد تنحي الرئيس حسني مبارك، رغم عالمية الرئيس أنور السادات وفكرة السلام الثمينة التي زرعها متجاوزاً الاحقاد الشعبية والاوهام الدينية الدامية وموروثه الشخصي نحو أفق إنساني جديد، في منطقة تنهشها الاساطير الصحراوية، وتفاسيرها البدائية الموروثة عن إله جعلوه جهلا مؤسس احزاب سياسية، ونصير مليشيات احيانا، ومؤجج الصراعات العرقية والدينية على الارض بسبب تمييزه لفئة من الناس عن الفئات الاخرى، وتبدّل هذا التمييز مع كل دين من الاديان الابراهيمية، فاليهود شعبه المختار، والمسيحيون نور العالم، والمسلمون هم الآعلون وخير أمة اخُرجت للناس.

 سألت نفسي بعد تأمل إستمر ثلاثين عاما في مبادرة الرئيس ومصيره: ما قيمة الانسان امام سطوة النصوص؟ وهل يكون التنوير دواء مالكي مفاتيح تفسيرها دينيا وسياسيا؟ أو هم لديهم حصانة لهذا العلاج؟! وما علاج العقل الانساني الذي يرفض الشفاء من الخداع الذي تعرض له؟ وهل دعاة السلام وحوارات الاديان مجرد مرتزقين في هذا المجال، لا تعنيهم سوى صورهم وما يُنشر عنهم ويتجاهلون صناعة السلام الحقيقية؟

 

 

وتمنياتي ان يضع الكتاب اسئلة اخرى امام القارىء، لأنه لم يُقدم إجابات نهائية على كل الامور، فالحقائق الصرفة صعبة المنال.

 تصدر هذه النسخة الألكترونية سنة 2018 بمناسبة مئوية الرئيس السادات، وقد أضفت إلى شخصيات أخرى إضافة إلى الشخصيات التي كانت في طبعة 2012 الورقية، وأغنت الشخصيات الجدية الكتاب بأفكارها التنويرية التي لم أكن على علم بها من قبل.

*يتثاسمون مصطلح لغوي من إبتكاري يجمع بين كلمتي يتثائبون ويبتمسون!

عادل صوما

 

قراءة إنسانية لرجل دولة

قرأت الكثير مما كُتب وقيل عن الرئيس الساداتطوال الثلاثين عاما الماضية، خصوصا ما كتبه خصومه ومَن لم يصدقوا انه رجل دولة، أومن نعتوه بأنه شخصية إنتقالية بعد الرئيس عبد الناصر لا قيمة لها، لأصل إلى منهجية تفكيره وتصوره لمحيطه الذي أهلّه للحفاظ على منصبه، ضد مراكز قوى كانت تشل قرار عبد الناصر نفسه، ثم الانتصار العسكري غير المتوقع على إسرائيل الذي كان ثمرة شجاعته، وإبتكاره ديبلوماسية غير مسبوقة سياسيا، قلب بها روتين التعامل مع الغرب وإسرائيل في المنطقة العربية، وكانت أهم عبارة اثارت إنتباهي قالها وزير الخارجية المصري إسماعيل فهمي: "مشكلة الرئيس السادات هي ميله إلى خلق جو درامي وإعطائه أهمية غير عادية، وتوهم أشياء لم تحدث".

 هذه العبارة جعلتني أعود إلى كتب علم السلوك، إضافة إلى كتابات بعض معاصريه، لأصل إلى تحليل يساعدني على رؤية السادات بوضوح أكثر، وهدتني القراءات إلى أن الرئيس قد تخلص من "إرادة الفشل" عند العرب والتجمد في الماضي، وهما الموروثان ثقافياً من الوقوف على الاطلال مهما كانت مناسبة القصيدة، ويمكن تشبيههما بإسبوع الصلاة السنوي من أجل وحدة الكنائس المسيحية، وأعني بذلك أن العرب يجتمعون نفاقاً ليفشلوا بسبب إختلافات مصالحهم، تماما مثلما تجتمع الطوائف المسيحية نفاقاً لتفشل صلواتهم من أجل وحدتهم في كنيسة جامعة، بينما مصالح كل كنيسة وصناديق نذورها تقول بإستحالة هذا الامر!

 تجاوز الرئيس السادات إرادة الفشل عند العرب والتجمد في الماضي، إلى الثقة بالنفس وقدرتها الخلاّقة على الايمان بالنجاح ورؤية مختلفة للمستقبل، بدلا من الدخول في متاهات بروتوكولات ونفاقات، أو حتى صلوات وطقوس لا تحل المشاكل، ووفّر على نفسه تبديد طاقته وذهنه من بلبلة مؤتمرات لا تُنفذ مقرراتها، وتُكتب إرضاءً للمجتمعين وعدم إزعاج احدهم، وليس لحل أي مشكلة يُراد حلّها، وأبعد عن نفسه نحس هذه الدائرة العقيمة والتصخر في الامس، وأراء الفضوليين ودوائر السماسرة الدوليين والمحللين المُخادعين الآمنين على مناصبهم طالما المشكلة قائمة.

 رغم أن الرئيس السادات كان صاحب القرار في أعظم خطوتين غيرتا مسار الصراع العربي الاسرائيلي، إلاّ انه بنى علاقة وثيقة بمن حوله لينتصر في حرب أكتوبر ويزور إسرائيل، وبدون ثقته في مَن حوله من قيادات عسكرية كان يستحيل عليه الانتصار عام 1973، وبدون علاقته الوثيقة ببعض السياسيين الذين أشاروا عليه بإخلاص، لم يكن بمقدروه إتخاذر قراره بزيارة إسرائيل.

 هكذا تفرد الرئيس السادات بالاصالة والاختلاف عن الرؤساء والملوك العرب كافة، لأنه كان الرائد ومن حذا حذوه قلّده سطحياً فقط، ولو كانت خطوته نحو السلام قصيرة الامد، لتوقفت بعد جفاف حبر توقيعها، لكنها خطوة طويلة الامد، وكل من ساروا فيها وحتى من ورثوا جهوده لم يكن لديهم سعة أفقه، وللأسف أن الظروف لم تمهله لينفّذ رؤيته لما بعد السلام، فجاءت كل الاتفاقات مع إسرائيل، كأنها أجنّة حضّانات في إنتظار فترة نمو لازمة لترى الحياة.

 ما قاله الوزير فهمي تهكما عن الرئيس السادات، يفسر سلوك العظماء والرجال الذين أصبحوا علامات فارقة، لأنهم لو خضعوا للأمر الواقع لظل واقعهم وواقع شعوبهم كما هو. ويفسر أيضا عدم تصديق اعداء وأصدقاء السادات لما كان يقوله، لأنه غير مؤهل حسب إعتقادهم لعمل أي شيء ذي قيمة، وقد شعر هو بهذا الامر وقال عنه: "جربتُ بصورة أليمة معنى أن يكون الإنسان صادقاً في ما يقول، ثم لايجد أحداً يصدقه، أو إذا صدقه فمن باب الإشفاق عليه. أعرف ذلك جيدا، وقد جربته وتعذبت به، وهانت نفسي على نفسي، ولكن من أجل مصر كل شىء يهون".

 لذلك إحتفظ بعد شهور من توليه الرئاسة بأفكاره الخاصة وقراراته المصيرية لنفسه، ونَفذَها عندما كانت ظروفه مواتية، وكانت تلك أيقونته الخاصة سعيدة الطالع التي علقها على رقبته ولم يقدّر احد شفاعتها.

 المليونيرات والقادة والمفكرون الذين غيروا التاريخ سياسيا أو ماليا أو عسكريا، سمعوا نداءً داخليا وخلقوا فكرة معينة لم تكن موجودة وآمنوا بها ونفذوها. كلهم كانوا أصحاب مبادرة وخيال وتضحية وتعاون، وهذا ما قاله الوزير فهمي "خلق جو درامي" نحو امر معين في العقل وإعطائه أهمية غير عادية حتى تنفيذه، و"توهم اشياء لم تحدث" لأنه، السادات، رؤيوي يفكر بطريقة غير موجودة عند الاخرين، ويرى المستقبل ويتجاوز ما حدث في الماضي كي لا يواجه حاضره مشلولا.

 هكذا كان الرئيس السادات، الفرعون الاصيل رجل السياسية غير المألوفة، ثابت العزم على ما يريد أن يؤديه، وقد هداه تفكيره الواضح البعيد عن الايديولوجيات والقوالب الديبلوماسية النمطية، إلى صنع ثورة في مفهومي الديبلوماسية والحرب، فقد إتجه من الكنيست الإسرائيلي إلى الجمهور يخاطبه ليحل السلام في الشرق الاوسط، بدلا من ميادين القتال، فربح قوة الرأي العام من السياسيين كافة، ما جعله رائد تفعيل الجمهور إيجابيا في الضغط لإتخاذ قرارات سياسية، بدلا من تلقيهم فقط الأخبار عن طريق الاعلام، ومن ثمة كان نجم أهم شاشات تلفزيونات في العالم ، خصوصا الولايات المتحدة لأربع سنوات، ما جعل إسرائيل ترضخ وتعطيه ما لم تعطه لغيره، من إحترام وتقدير وإلتزام بما وقعه رئيس وزرائها، وبتسويف قليل لا يعرفه المفاوض الاسرائيلي عادة!

 على صعيد الحرب، إسترد الرئيس السادات ارضه، بأقل قدر ممكن من إزهاق الارواح، وكانت إرادته التمهيد كذلك بالنسبة لباقي الاراضي المحتلة العربية، وحل الدولتين بالنسبة للفلسطينيين، لكن الرؤساء العرب قدموا حماسيات لم تجد نفعاً حتى في إتفاقيات سلامهم اللاحقة مع إسرائيل، ولم تؤثر ايجابيا على عمق الصراعيّن العسكري والحضاري معها، أمّا الفلسطينييون فبلغوا قمة شرذمتهم ومقاومتهم للإسرائيليين، بعد اخطائهم القاتلة في الاردن ولبنان والكويت وغيرها من الدول، أن يقول المقاتل من "حماس" لرفيقه وهو يهم بالقاء عنصر من "فتح" من فوق العمارة سنة 2009: "لا تلقه ودعني ادخل به الجنة"، ما يعني أن حقوق الشعب الفلسطيني كادت تتلاشى تماما، وظهرت مماحكات فرعية اخرى مثل أنفاق سيناء وخلافات "السلطة" و"حماس" وبراميل الالغام وغيرها من إلتزامات وراء الكواليس، تشّل الارادة الحرة ولا تعيد حقوق الشعوب، ويستحيل أن تنفذ شعاراً جماهيرياً مثل "تحرير فلسطين من النهر إلى البحر".

 الرئيس أنور السادات على صعيده الشخصي، حكاية إرادة عرفت معنى المثابرة والتصميم حتى بلوغ الهدف، وعلى الصعيد السياسي هو رئيس مصري صرف، لم يعمل سوى تحت إسم مصر ومن اجلها، كما دخل مزاد "مسألة فلسطين" وهو يعلم تماما ان وظيفة الجميع هي المزايدة فقط للإستمرار في حضور مزاد حل وهمي يستحيل شراء شيء فيه، فخرج عن حالة المزايدة وحاول شراء حل واقعي مهما حصل لوجوده الشخصي في المزاد، أمّا على صعيد الرئاسة نفسها فقد كانت له نجاحاته وإخفاقاته، لأنه كان إنسان في نهاية المطاف، محكوم بظروف ورؤى شخصية ودوائر وزارات تمده بتقارير.

عمره الافتراضي ثلاثة شهور

من الغريب ان يموت اغتيالا بين جيشيهما الرجلان اللذان حققا أعظم انتصارين لمصر، منذ الفرعون أحمس الأول الذي هزم الهكسوس؛ السلطان سيف الدين قطز والرئيس انور السادات. واذا كانت كتب التاريخ المصرية قد تجاوزت الجريمة التي ذهب ضحيتها قطز، الذي انقذ الانسانية كافة وليس مصر فقط، لأنه من المماليك وليس مصريا، رغم إنه قاهر المغول في عين جالّوت، فإن عقد الذنب العربية والاسلامية كافة، حملّت السادات كل عورات ومكائد قبائل وعشائر العرب والمستعربين (الناطقون بالعربية وليسوا عربا لجهة العرق، إستنادا إلى القرآن نفسه) والمسلمين، منذ ان تلاعبت بهم الصهيونية السياسية، وغض رجل الامبراطورية العثمانية المريض الطرف عما يحدث في فلسطين سواء عن ضعف أو تآمر.

 من هو الرجل الذي ألصقوا به كل ذلك؟ وما هي الخلفيات السياسية التي عاشها، وكيف وصلت به الامور الى تلك النقطة، بعيدا عن النظريات المقولبة التي روجها المنّظرون أو الذين اكلوا على موائد السلاطين وعاشوا في بحبوحة من انعاماتهم. هناك اساسيات ووقائع محددة، وما زاد على ذلك حواشي وجدل عقيم لا لزوم له، والوثائق ومضابط التاريخ هي المصادر.

 تولى الرئيس السادات الحكمبعد وفاة الرئيس عبد الناصر، وورد في تقارير الاستخبارت الاميركية والسوفياتية والاوروبية والاسرائيلية، انه قد يستمر لمدة اقصاها ثلاثة أشهر، وستتم ازاحته عن المنصب انقلاباً أو عزلاً أو قتلاً، لأنه شخصية هامشية ليس لها اتباع أو رؤية في الحكم، وإنتقل إليه بصفة دستورية لأنه نائب عبد الناصر، الذي إحتفظ به وعينه في ذلك المنصب الشكلي لمجرد ولائه له.

 كانت تلك التقارير واقعية للغاية، فالجيش لم يكن مواليا له، ولا الاتحاد الاشتراكي ولا الاعلام، وحتى جهازي الأمن والمخابرات لم يكونا بأمرته تماما. ولأن كل بلد له اسراره وأساطيره الخاصة، يمكن القول ان قادة هذه الأجهزة كانوا ضده وعملوا على إزاحته تنفيذا لأوامر من نصبوّا أنفسهم ورثة عبد الناصر، أمّا هو فقد كانت معه الشرعية التي استمدها من تصويت اعضاء مجلس الشعب، والمؤسسة الفرعونية القائمة منذ آلاف السنوات ببيروقراطيتها واستمراريتها، ومقدرته السلوكية المذهلة على إخفاء قوة مكونات شخصيته الحقيقية، وقدرته الفذة على فهم وخوض الاعيب ومناورات سكان القصور.

 أسس السادات عندما شعر انه الحاكم الفعلي لمصر، هيكلية حكم جديدة أطلق عليها "ثورة التصحيح"، بعدما تجاوز بنجاح غير متوقع مكائد الصراع الذي نشب بينه وبين ما عُرف بمراكز القوى، وهم حكام البلد الفعليين حتى في عهد عبد الناصر، الذي بلغ ذروته ليلة 14 آيار/مايو 1971، وانتهى بالقبض عليهم جميعا في ساعة واحدة، بعدما قدموا استقالات جُماعية لحدوث فراغ وزاري يزلزل الجالس في قصر فرعون، وقيل عن ردة فعله على هذا الامر التآمري بالغ الخطورة، بسطحية خبيثة لبلد بحجم مصر "انه تنّكر لعبد الناصر"! ما علاقة عبد الناصر في قبره برؤوس كانت تخطط لعزل رئيس جمهورية منتخب هو السادات؟

 ومرة اخرى، كتبت اجهزة المخابرات العالمية ان الطاقم الجديد وعلى رأسه السادات، غير قادرين على خوض معركة ضد اسرائيل أو ادارة صراع معها، لأن الولايات المتحدة وإسرائيل لم تصدقا حتى خطط الحرب العربية التي تسلماها من عملائهما، وإعتبرا ان السادات مجرد مهرج أجوف الصوت يجب الاّ تؤخذ تهديداته في خطاباته وعباراته الانشائية على محمل الجد.

 زعم بعضهم ان السادات تولى الحكم وكانت هناك الخطة 200؛ خطة تحرير سيناء في 12 يوما والوصول الى الحدود الدولية لمصر. والمقصود من هذا الزعم تقليص دوره في حرب اكتوبر/تشرين الاول. وإذا تجاهلنا كلام محتكري الفهم والحكمة والتحليل والتوقع والاستشعارعن بعد، وقرأنا ما كتبه عسكريو مصر الكبار، سندرك حقيقة دوره القيادي في هذه الحرب.

ذكر المشير عبد الغني الجمسي في مذكراته: "وفي مصر ظهرت بعض المذكرات والكتب تقول انه كان هناك الخطة 200 والتي وضعت عام ألف وتسعمائة وسبعين لتحرير سيناء في اثنتي عشر يوما، الا ان الظروف في ذلك الوقت لم تسمح بتنفيذها. لقد ظهر اسم هذه الخطة والغرض منها في مذكرات احد القادة العسكريين المصريين السابقين، ومن هنا نُقلت الى مذكرات وكتب اخرى. وسوف يسجل التاريخ ان هذه الخطة كانت خطة دفاعية عن منطقة قناة السويس. ولقد وضُعت هذه الخطة بعد حرب يونيو مباشرة. واشتركتُ فى وضعها في ذلك الوقت. ووثائقها موجودة في وزارة الدفاع".

 وجاء في مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي، رغم خصوماته الشرسة مع السادات: "لم يكن لدينا حتى منتصف مايو 1970خطة لتحريرسيناء، وعندما عُينت رئيسا للأركان في مايو 1970 لم يكن هناك خطة هجومية، كان لدينا خطة دفاعية تسمى الخطة 200".

 هذا ما كُتب عن الخطة 200، فماذا كُتب عن الخطة "بدر" وهي الخطة التى أنجزتها القوات المسلحة المصرية في حرب اكتوبر عام 1973؟

 ورد في مذكرات المشيرعبد الغني الجمسي: "وعلى ضوء الاستراتيجية العسكرية الاسرائيلية والاستراتيجية العسكرية المصرية، وضعت مصر خطتها في حرب اكتوبر ... وملخص الفكرة الموجودة وثائقها في وزارة الدفاع:ان تقوم القوات الجوية بضرب الاهداف المعادية في سيناء مع تمهيد نيراني على طول الجبهة واقتحام قناة السويس بالجيش الثاني والثالث على طول الجبهة وانشاء رؤوس كباري لنقل خمس فرق بعمق عشرة أو عشرين كيلو متر، مؤمنة بواسطة الطيران .... وبعد وقفة تعبوية أو بدونها يتم تطوير الهجوم شرقا حتى خط المضايق وبذلك تكون القوات الاسرائيلية في ارض مكشوفة في وسط سيناء، ولا تتمكن من انشاء خطوط دفاع للعوامل الطبوغرافية لسيناء، وعدم قدرتها على تجميع قوات الاحتياط في الوقت المناسب، على ان تقوم القوات البحرية بتأمين السواحل والتعرض لخطوط الملاحة في مضيق باب المندب من وإلى ايلات. وبالخطة بدر، تم تطوير الهيكلية للقوات المصرية، من هيكلية دفاعية بحتة على قناة السويس إلي هيكلية هجومية على مراحل".

كان السادات يمازح اسرته بالقول: ده بابا، بإسلوب يُفهم منه كلمة ضباب، كما قالت ابنته كاميليا من زوجته الاولى السيدة إقبال، عندما كان يتأخر عليهم فى تلبية طلب ما ثم يلحّون عليه. وقد ذكرلهم نكتة قيلت عنه وهو رئيس هي: "وقفت عربة يجرها حمار في وسط الطريق، وعطلت حركة السير، ولما جاء ضابط المرور لسؤال سائقها عن سر توقفه قال له: الضباب. فسأله الضابط: اين الضباب؟ فرد الحوذي: إسال الحمار".

 قامت مظاهرات من شباب الجامعة سنة 1972 مطالبين السادات بالحرب، لأنه صرح ان تكون سنة 1971 هي سنة الحسم، كما وقّع مفكرو وأدباء مصر الكِبار بيانا طالبوا الرئيس فيه إنهاء حالة اللاحرب واللاسلم، اياً كانت الطرق والسبل التى سيأخذها فى تحقيق ذلك.

 كانت هناك ذرائع تقال عن سنوات الضباب تلك، منها قيام حرب بين الهند وباكستان، والخوف ان تجذب الانتباه من معركة مصر. وأن هناك ضباب في الفترة المحددة لموعد الحرب، ما يؤثر على عمليات الطيران، وكان الامر محيرا، خصوصا بعدما طرد السادات الخبراء الروس خلال 24 ساعة، وغيّرأغلب قادة فروع القوات المسلحة. وإذا تأملنا هذه الفترة الان، وما عرفناه عن السادات كمناور بارع يملك مقدرة اخفاء ما يضمره، ورئيس يهمه مصلحة بلده بعيدا عن العواطف وجيشان الشارع، ندرك انه ناور الخصوم والحلفاء وحتى مفكري مصر، ليخفي حقيقة قراره وتوقيته عن العدو.

 من الحقائق المهمة الاخرى التي اخفاها حتى ضرب ضربته، هي نيته طرد الخبراء الروس الذين منعوه ذات يوم ، وهو رئيس، من دخول إحدى قواعدهم في مصر، بحجة انه لا يملك تصريحا من الكرملين! وقد اصبح السادات بعد طردهم سيد قراره وحاكم مصر الفعلي.

 أهم ملامح سياسة انور السادات انه كان يستطيع ان يتخذ قرارات غير شعبية وهو في مركز ضعف، لأنه قاد الشارع وشكّل الرأي العام، ولم يجعلهما يقودانه. كان رجلا يصنع التاريخ ولا يجعل الجغرافيا أو التاريخ أو الرأي العام الخاضع للموروث الثقافي يفعلون به ما يريدون. صاحب الفعل وليس ردة الفعل، كما انه كان صاحب حساسية بالغة تجاه قراءة موقف الرأي العام الحقيقي سواء كان معه أو ضده. وهناك عدة امور تؤكد هذا الامر، من تصفيته لمراكزالقوى إلى طرده الخبراء الروس، التي أدت لحرية قراره والمحافظة على سرّية حرب اكتوبر، ثم إسلوب مفاوضاته اثناء اتفاقيتي فض الاشتباك، حتى ذهابه إلى إسرائيل، وتعليقه على صورته الشخصية على قمصان الواقفين على أسوار كامب ديفيد، يتابعون المفاوضات العسيرة بينه وبين مناخم بيغن، حتى هياج الشارع العربي والاسلامي عليه بسبب معاهدة السلام.

 استخدم انور السادات خطوات كان يسميها "الصدمات الكهربائية"، إضافة إلى عناصر المفاجأة والسرعة والواقعية المفرطة في إسلوبه الفريد، وصراحته ووضوحه في عرض مطالب بلده، وهو الوحيد بين رؤساء الدنيا الذي نجح باقتدار بالغ في نقل صراعه مع خصومه كافة بمن فيهم إسرائيل، من كواليس القصور وتوزيع الحصص على السماسرة وساحات المعارك وضبابيات المفاوضات السرية، إلى الاعلام، حيث ربح معظم معاركه بسحر شخصيته وأناقته، وقدرته الهائلة على الوقوف امام الكاميرات وسرقة اللقطة ومحبة الناس ممن هم بجواره.

حقائق في المنسى من معركتين مصيريتين

 تحليل تسارع احداث الفترة من 14 آيار/مايو حتى 4 حزيران/يونيو 1967، ينتهي الى وضع علامات استفهام بحجم المصيبة التى حصلت، بناء على تقدير القيادات السياسية والعسكرية المصرية في ذلك الوقت.

 بدأت وقائع هذه الفترة بمعلومات غير صحيحة بتاتا، وردت من سورية وأكدها الاتحادالسوفياتي لمصر، عن وجود حشود عسكرية إسرائيلية امام الجبهة السورية لشن هجوم اسرائيلي عليها، بعد هجوم جوي من مقاتلات سورية على جرارات ومحاريث زراعية على حدود البلدين، فصدرت الاوامر للقوات المسلحة المصرية بالحشد فى سيناء تحت خطة سُميت "قاهر"، وبناء على الامر السياسي، تفقد الفريق أول محمد فوزي الجبهة السورية، وكانت النتيجة التى رفعها للمشير عبد الحكيم عامر، كما جاءت فى مذكراته ووثائق وزارة الدفاع هي:"انني لم احصل على دليل مادي يؤكد صحة المعلومات، بل العكس هو الصحيح، إذ انني شاهدت صورا فوتوغرافية جوية عن الجبهة الاسرائيلية التقطت بواسطة الاستطلاع السوري يومى 12 و13 مايو، فلم الاحظ تغيير للموقف العسكرى العادي".

 ورغم ذلك استمر الحشد فى سيناء، ومرت قوافل الجيش في وسط القاهرة إلى شبه الجزيرة وسط تهليل الناس وتصفيقهم. ويقول الفريق أنور القاضي، رئيس العمليات في ذلك الوقت، والعارف قدرة وحجم وجاهزية قواته واستعداها للقتال في مذكراته: "عندما طلع نهار يوم 14 مايو كان كل شيء يسير بشكل طبيعي في القيادة، ولكننا فوجئنا بأن المشير عامر نائب القائد الأعلى، عقد اجتماعا في مكتبه مع الفريق محمد فوزي رئيس الأركان، وصدرت الاوامر بوضع القوات في أقصى درجات الاستعداد.وعندما سألت عن السبب كانت الاجابة غامضة: ان هناك معلومات مؤكدة تجمعت لدى القيادة السياسية بأن اسرائيل تستعد لغزو سوريا وان الانفجار متوقع بين لحظة واخرى على جبهة الجولان، وبحكم إتفاقية الدفاع المشترك بين مصر وسوريا، فلابد ان ترفع درجة الاستعداد في القوات المصرية لمواجهة الموقف. وبالطبع كان الأمرمفاجأة لي في هذا الموقع، كرئيس لهيئة العمليات، فقد كنت أعلم مدى قدرة القوات المسلحة وقتها وحجم استعدادها العسكري، وبأن الموقف خطيرا ومزعجا. ولكني فهمت من المشير عامر ان الامر لا يتعدى ان يكون مظاهرة للرد على التهديدات الاسرائيلية لسوريا".

 توالى السيناريو، ونظرا للحملات الاعلامية التى شنها الاردن والسعودية والفلسطينيون، بمؤازرة ثوار مقاهي إعلام العالم العربي على الرئيس عبد الناصر، وإتهموه بالضعف فى الدفاع عن حدوده وتستره خلف قوات الطوارىء الدولية، طلب عبد الناصر من هذه القوات بقيادة الجنرال ريكي الرحيل من سيناء.

 قرار الحرب لا يترك لتفكير فرد واحد، بناء على معلومات غير صحيحة كما يؤكد العسكريون، لكن الامر غير المُفسر هو ان حسم قرارخوض الحرب كان مختلفا تماما وراء كواليس الاحداث وامامها، فقد قال الرئيس عبد الناصر للمشير وراء الكواليس قبل إسبوع من الخامس من حزيران/يونيو: "انك متخلف ما لا يقل عشر سنوات عن العصر الذي انت فيه. كيف ستلحق هزيمة بجيش حديث حسن التدريب مثل الجيش الاسرائيلي، وجيشك لم يتمكن لسنوات ان يخضع شراذم اليمنيين المدمنين على المخدرات؟".

 لكن الرئيس عبد الناصر امام الميكروفونات واثناء المؤتمر الصحافي الذى عقده سأل المشير عبد الحكيم عامر في ايار/مايو 1967: اذا قفلنا المضايق فالحرب مؤكدة 100%؟ وكان رد المشير: برقبتي يا ريس، كل شيء على أتم الاستعداد. وفي 29 آيار/مايو 1967 قال الرئيس في خطاب سمعته الدنيا: "لقد باتت إستعداداتنا كاملة، ونحن الان مهيئون لمواجهة إسرائيل.. لقد اصبحنا قادرين على معالجة قضية فلسطين بأكملها.. سوف نقرر نحن وليس هم زمان المعركة ومكانها".

تجاهلت القيادة السياسية الممثلة في العقل الواحد وهو عبد الناصر، كل المعلومات العسكرية غير الصحيحة عن الجبهة السورية، وحقائق استعداد جيش لخوض حرب، كان ثلثه تقريبا قد عاد من حرب اليمن مستهلكا فاقدا معظم معداته ومعنوياته، إضافة الى قوات جوية ودفاع جوي غير قادريّن على مواجهة جيش إسرائيلي يعتمد اساسا على مقاتلاته الجوية.

 انصاع عبد الناصر الى غوغائية ثوار المقاهي السياسية، والورطة غير المفسرة حتى اليوم، التي حبكتها سورية وصدّق على صحتها الاتحاد السوفياتي، وإنتهى الرئيس الى قرار خوض مظاهرة عسكرية ومغامرة سياسية لربح ديبلوماسي مشكوك تماما في إحرازه، في مواجهة استعداد إسرائيلي، تم التحضير له بعناية تامة بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، أهلّ إسرائيل لضربتها الجوية الصاعقة التي شلّت تماما الجيش المصري الذي لم يتلق اوامر باطلاق النار، لأن المشير عامر كان وقتها على متن طيارة في الجو! وكان السفير الروسي قبلها قد أيقظ عبد الناصر فجر يوم 5 حزيران/ يونيو، ونصحه بعدم المبادرة في القتال وإلاّ فقد التأييد السوفياتي له! كذلك لم يتلق الجيش المصري اوامر بالانسحاب، فكانت المصيبة التي اُطلق عليها نكسة، وقال عبد الناصر عنها انه خسر معركة وليس حربا، فقد "انتظرناهم من الشرق فجاءوا من الغرب".

 الظروف التي سبقت حرب تشرين اول/اكتوبر 1973 كانت أعقد سياسياً وعسكرياً من حرب يونيو 1967. كانت مصر مهزومة عسكرياً وطلبات المهزوم احلام مستحيلة التحقيق، خصوصا مع عدو متغطرس متفوق بالقوة ونشوة النصر، في ظل سياسة وفاق حصلت بين اميركا وروسيا في عام 1972، جعلت قضايا الشرق الاوسط في مرتبة متدنية على اجندتيهما، عند البحث في حلول لما هو قائم من مشاكل في العالم، ومماطلة السوفيات في امداد مصر بالسلاح الرادع والذخيرة، مع جزمهم استحالة عبور القناة واجتياز خط بارليف الاّ بقنبلة ذرية، ما جعل العلاقات بين القاهرة وموسكو في أدنى درجاتها، ثم وصلت إلى طرد الخبراء الروس من مصر، التي أكّد كل قادة الجيش آنذاك وفي مذكراتهم ايضا، ان لا تداعيات سلبية منها، بل الأصوب ان تكون الحرب مصرية بحتة، ما يترجم حساسيتهم الوطنية في التعامل مع غرباء داخل مواقع عسكرية مصرية. أمّا الرئيس السادات نفسه فقد عبّر عن شكّه وعدم ثقته في نوايا الروس بقوله في خطاب له: "أصل يظهر إن الروس زي مراكز القوى تماما.. كانوا فاكرين إني أهبل مش واخد بالي".

 تم اعداد الدولة للحرب رغم تلك تلك العقبات، ووُضعت استراتيجية عُليا للدولة، لعبت القوات المسلحة فيها الدور الرئيسي، ووجهت من ثم كل القطاعات جهودها استعداداً للحرب، واُعُطيت مطالب القوات المسلحة الأولوية، وحصل التوازن الدقيق بين القيادة السياسية والعسكرية، وأدى كل منهما دوره باحتراف وتخصص. وعلى سبيل المثال نذكر ان القيادة العسكرية حددت ثلاث تواريخ ممكنة لبدء حرب سنة 1973، ووافق الرئيس وكلّف قيادة القوات المسلحة بعمل عسكري في حدود قدراتها بقوله:"ندخل الحرب بما لدينا من اسلحة متوفرة لدينا".

 في صباح يوم الجمعة 5 تشرين الاول/اكتوبر 1973 أصدر الرئيس السادات توجيها استراتيجياً مكتوباً الى الفريق احمد اسماعيل علي قائد الجيش ووزير الدفاع هنا نصه:

 "اولا: بناء على التوجيه السياسي العسكري الصادر لكم مني في أول اكتوبر 1973، وبناء على الظروف المحيطة بالموقف السياسي والاستراتيجي، قررت تكليف القوات المسلحة بتنفيذ المهام الاستراتيجية التالية:

  • ازالة الجمود العسكري الحالي بكسر وقف اطلاق النار اعتباراً من يوم 6 اكتوبر 1973.
  • تكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة في الافراد والاسلحة والمعدات.
  • العمل على تحرير الارض المحتلة على مراحل متتالية حسب نحو وتطور امكانيات وقدرات القوات المسلحة.

 ثانيا: تنفيذ هذه المهام بواسطة القوات المسلحة منفردة أو بتعاون مع القوات المسلحة السورية".

 في مساء الجمعة 5 تشرين الاول 1973 اجتمع أشرف مروان مدير مكتب الرئيس السادات وجاسوس إسرائيل الأعظم في تاريخها مع مدير الموساد تسفي زامير في لندن بناء على طلب عاجل من مروان، وأكد له في هذا الاجتماع أن الحرب ستكون في اليوم التالي، وعندما سأله مدير مكتب الموساد عن مصادر معلوماته رغم انه بعيد عن القاهرة منذ ثلاثة ايام، اجاب مروان أنه صدرت تعليمات لرحلات مصر المدنية بتغيير مواعيد إقلاعها بعد ظهر 6 تشرين الاول، وهذه إشارة مهمة جدا تنبىء بحدوث الحرب غدا، وعندما سأله مدير مكتب الموساد أن يضع نسبة مئوية لبدء الحرب غدا بناء على معلومة تغيير مواعيد الرحلات المدنية، ردّ مروان إنه (السادات) مجنون اتخذ قرار الحرب مرتين قبل ذلك وأجله، يوهم الناس بانه يسير معهم ثم ينسحب في أي لحظة، لكن كل القرائن تشير إلى أن الحرب غدا.

 واضح من ردّ مروان أن السادات داهية لا يثق سوى في قيادات جيشه، وقد طبّق مبدأ أسماه "حاجة المعرفة" وهو ببساطة أن قيادات الجيش العُليا فقط تحتاج لمعرفة ساعة الصفر والباقين لا يحتاجون لمعرفتها فهذا الامر ليس في مصلحة الجيش، ومن ثمة لم يكن غريبا أن لا يعلم محمد الزيات وزير خارجية مصر بساعة الصفر رغم جهوده الديبلوماسية الهائلة قبل هذه الحرب!

 صباح السبت 6 اكتوبر 1973، اجتمع قادة هيئة الاركان بقيادة الرئيس السادات، وهم يعلمون انهم سيدخلون حربا بعد ساعات يتفوق العدو تجهيزاً فيها، رغم أن المهاجم يجب أن يكون متفوقاً على المدافع، لذلك من الضروري خلخلة تفوق عدوهم العسكري، على الأقل في المرحلة الاولى لاقتحام قناة السويس على طول 175 كيلو مترا، المتحصن خلفها الجيش الاسرائيلي بأطوّل وأعمق مانع مائي في تاريخ الحروب، وساتر ترابي وقوات كافية على الخط الامامي، واخرى مدرعة على انساق متتالية، وسلاح طيران أكفأ من خصمه المصري.

 كانت شهادات هؤلاء القادة في مذكراتهم كافة، تدل على ثقتهم في بعضهم البعض وقائدهم الأعلى وجنودهم وصوابية التخطيط ومشروعية القتال، وهي شهادات حيّة من منفذين في لحظات ترقب انتصار عزيز، بينما إسرائيل والولايات المتحدة لم تصدقا جدّية خطط الحرب المصرية التي سلمها إليهما عملاء أجهزة المخابرات، ناهيك عن تحذير أشرف مروان بالغ الخطورة، لأنهما إعتبرتا أنور السادات مجرد مهرج لا يجب أن تؤخذ كلماته أو تهديداته على محمل الجد، وإن حدثت حرب فلن تكون سوى قصف مصري بالمدفيعة الثقيلة في إنتظار تحرك ديبلوماسي، كما قال موشيه دّايان صباح يوم 6 تشرين الأول 1973 في اجتماع طارىء لمجلس وزراء إسرائيل!

حرب اكتوبر مسرحية حسب المنّظرين

 الطريق الى السلام بين مصر وإسرائيل بدأ من ميدان القتال، وهنا بعض النقاط الرئيسة عن حرب تشرين أول/اكتوبر، وسيكون تركيز التفاصيل الموجزة للغاية على الجبهة المصرية، لارتباط الكتاب بالرئيس السادات.

 عندما أشارت عقارب الساعة الى الثانية وخمس دقائق في السادس من تشرين الاول/اكتوبر عام 1973، اندلعت شرارةالقتال على الجبهتين المصرية والسورية، وعبرت أكثر من 220 طائرة مصرية، خط جبهة قناة السويس، بارتفاعات منخفضة جدا،للهروب من الرادرات الاسرائيلية، وطارت هذه المقاتلات بشكل محكم للغاية، إذ انطلق بعض اسرابها من مراكز في بني سويف التي تبعد حولي 700 كيلومتراعن الجبهة، لتصل مع اسراب اخرى انطلقت من مطارات أقرب في الوقت نفسه، ما ألهب مشاعر القوات الارضية بالحماس والثقة، وقد هاجمت هذه المقاتلات قواعد جوية إسرائيلية ومواقع صواريخ مضادة للطائرات، ومراكز قيادة ومحطات ردارات ومرابض مدفعية، وحققت نجاحا عظيما بقيادة اللواء طيارحسني مبارك، وما حققته من نتائج كان أقل بكثير من الخسائر المتوقعة المتعارف عليهاعسكريا، في حال مشاركة طائرات بهذا العدد، وكانت الاصابات المصرية خمس طائرات فقط، منها مقاتلة النقيب الشهيد عاطف السادات، الشقيق الأصغر للرئيس السادات .

 في الوقت الذي كانت القوات الجوية تهاجم اهدافها في عمق سيناء، كان أكثر من 2000 مدفع على طول الجبهة تفتح وابل نيرانها على حصون خط بارليف، وما خلفها من مواقع دفاعية حصينة ومواقع مدفعية ومرابض صواريخ، واستمر القذف لمدة 53 دقيقة، وكان معدله عشرة الاف وخمسمائة قذيفة في الدقيقة، بمعدل 175 قذيفة في الثانية الواحدة. وتحت تلك النيران الهائلة، التي كان يقودها اللواء سعيد الماحي من غرفة العمليات الرئيسة، وفي مواجهة النيران المضادة من حصون اسرائيل، تحول خط قناة السويس إلى لسان لهب، ما جعل اللواء الماحي يبعد قذائفه قليلا إلى الامام، لتقتحم قوات الجيش الثاني بقيادة اللواء فؤاد عزيز غالي والثالث بقيادة اللواء احمد بدوي، قطاعات عبور محددة لها.

قاتل الاسرائيليون بضراوة لحماية حصونهم، واندفعت الدبابات من احتياط "انساق التوالي" القريب لمواجهة القوات المصرية المهاجمة من الصاعقة والمشاة، وكانت امامهم احدى خدع الحرب غير المتوقعة عام 1973، وهي وجود قوات المشاة والصاعقة حاملين قاذفات محمولة على الكتف (ساغر) موجهة ضدالدبابات، ما يعني انها كانت معركة بين رجال ودبابات، وليس دبابات ودبابات كما العرف العسكري آنذاك، وسبَبَ ذلك خسائر كبيرة غير متوقعة في الجانب الاسرائيلي. واستمر تدفق القوات المصرية في موجات متتالية في قوارب مطاطية وخشبية، حملت في الدقائق الأولى من العبور 8000 مقاتل، ارتفع عددهم بعد ساعة إلى 14000 ليصل بعد خمس ساعات الى ثلاثة وثلاثين ألف مقاتل.

 امر الرئيس انور السادات، وهو يتابع البلاغات التي وصلت من الجبهة، مع هيئة اركانه بقيادة الوزير الفريق اول أحمد اسماعيل علي، وتأكدوا منها بصورة لا لبس فيها عبور قواتهم، برفع العلم المصري فوق حصون خط بارليف، وإذاعة البيان العسكري الاول عن الحرب، التي لم يكن الشارع المصري على علم مسبق بها. واستمر القتال بقوة وضراوة، وكان على قوات المشاة والصاعقة الذين عبرواالقناة أن يقاتلوا بعمق عدة كيلو مترات لحصار حصون اسرائيل، وفي الوقت نفسه دار قتال بعمق 8 الى 10 كيلومترا، لتأمين عمل قوات سلاح المهندسين لفتح ممرات وانشاء جسور، تحت نيران المدفعية الهائلة وقذف الطيران الإسرائيلي الذي لم يتوقف لحظة.

كانت اسرائيل قد جهّزت في مواقع حصينة، خزانات فيها وقود النابالم سريع الاشتعال، ليخرج من انابيب على مياه قناة السويس ويشتعل كهربائيا من داخل المواقع، لحرق القوات التي تعبر القناة، الا ان الاستخبارات المصرية توصلت الى هذه المعلومة العسكرية بالغة الخطورة وتم إبطال مفعولها، بعد ان عبرت مجموعة من سلاح المهندسين ليل 5/6 تشرين اول/اكتوبر غطسا تحت الماء، وسدوا فتحات النيران، وعندما اراد الاسرائيليون تشغيلها عند عبور المصريين وجدوها لا تعمل .

 في الوقت الذي كانت المعارك فيه مستمرة في العمق، وسلاح الطيران يقذف والمدفعية تهدر ومنصات الصواريخ تعمل في تناغم مذهل، كان في موجات اقتحام القوارب الاولى عدد كبيرمن سلاح المهندسين، باسلحتهم ومعداتهم الفنية ومضخات لشق الفتحات في الساتر الترابي لخط بارليف الذي كان يبلغ ارتفاعه 22 مترا، وعمل الممرات لانشاء جسورأكثر، واستمات سلاح الجو الاسرائيلي لإيقاف إنشاء الجسور بقذف جوي مكثف، تصدى له سلاح الدفاع الجوي بصواريخ سام 6 وسام 3، وتم انشاء 8 جسور ثقيلة و4 خفيفة و30 جسرا متحركا، وكان ضروريا أن تفتح القوات البحرية النار في البحريّن الابيض المتوسط والاحمر، فقُذفت من البحر المتوسط منطقة بور فؤاد، ومن الاحمر شرم الشيخ، كما كان ضروريا وجود مدمرات في البحر الاحمر لاغلاق باب المندب، وإلقاء ألغام بحرية لوقف امداد البترول عن إسرائيل، ومن اجل هذا الهدف تم الاتصال في آذار/مارس1973 بدول صديقة لارسال مدمرات مصرية تحت بند الاصلاح، واتُفق مع السودان واليمن على ان المدمرات ستبقى بعد اصلاحها في زيارة ودية، لتكون ظهر 6 تشرين الاول/اكتوبر عند باب المندب تنفد المهام الموكولة اليها، وتم تنفيذ ذلك بكفاءة وسرية تامة، لعدم علم السودان أو اليمن بالهدف الرئيسي.

 في صباح 7 تشرين اول/اكتوبر، كان الهجوم المصري قد تم بنجاح مع اقتحام خط بارليف بكامله، وعبور أصعب مانعيّن مائي وترابي في العالم، بفضل الملامح البارزة في القتال وطوال الحرب، وهي تنفيذ الخطط بصورة دقيقة، إضافة إلى ضرب القادة المثل لجنودهم، حين قاتلوا معهم في الخطوط الامامية جنبا الى جنب، وهذا يفسر سر استشهاد بعض القادة فى المعركة مثل اللواء احمد حمدي قائد سلاح المهندسين .

 إنتصرت إسرائيل في حرب حزيران/يونيو 1967 في حدود اعتبرتها غير آمنة، وهُزمت في حرب اكتوبر/تشرين الأول داخل حدود اعتبرتها آمنة، وجنودها خلف أعلى ساتر ترابي في التاريخ بعد خط ماجينو، وأطول وأعمق مانع مائي لم يعرفه التاريخ العسكري، وهذا له دلالته العميقة في ميثاق العيش بسلام، كما تعتبر حرب اكتوبر اول حرب عربية يصدر فيها رئيس بلد عربي امراً مكتوباً الى جيشه بالقتال، علاوة على دقة معلومات الاستخبارات المصرية، التي لعبت دوراً حاسماً في رصد المعلومات وتحليلها بأمانة علمية، ما جعل خسائر الجيش المصري قليلة نسبة الى هكذا معركة. ومن الامور المهمة ان اختيار يوم السادس من اكتوبر لبداية الحرب جاء بعد دراسات علمية وفنية مرتبطة بالمد والجزر وقوة الرياح في قناة السويس، وليس لأنه "يوم كيبور" وهو رأس السنة اليهودية، أمّا اختيار الساعة الثانية بعد الظهر وليس الفجر أو آخر ضوء في النهار، فسببه وجود الشمس امام عيون الاسرائيليين وخلف المصريين الذين كانوا يعبرون من الغرب الى الشرق، ورغبة السوريين في أن تكون ساعة الصفر قبل الغروب، مع عدم نسيان الخداع الستراتيجي الذى مارسته القيادة العسكرية والسياسية باقتدار وبراعة وسرية وعلى رأسهم السادات نفسه، وأدى الى عنصر المفاجأة المذهل في المعركة، وشهد له جهازا المخابرات الاسرائيلية والاميركية؛ "لقد خدعونا". هكذا قالوا بعد ان جاء في تقاريرهم أن السادات وطاقمه ليسوا اهلاً لخوض حرب، علاوة على الروس الذين رأوا ان ازالة خط بارليف يحتاج الى قنبلة ذرية!

 أغرب ما قيل عن حرب اكتوبر هو الزعم بأنها كانت مسرحية مدبرة بين السادات والادراة الاميركية واسرائيل. وصل تزوير التاريخ الى محاولة نشر افكار ساذجة مثل قبول اسرائيل تعريض وجودها وأمنها القومي للخطر وسمعة جيشها للتهوين من شأنه، ومن ثمة لا يمكن التكهن بمدى تأثيره على عدو منتصر يتقدم على الارض! ثم شاء الآمنون على مناصبهم الزعم ايضا ان نصر اكتوبر قد تحوّل الى هزيمة ستراتيجية، اما نكسة يونيو فكانت نصرا سياسيا.

كانت أفدح سلوكيات الرئيس عبد الناصر في يونيو 1967 هي تجاهل الظروف التي تغيرت منذ عام 1956، وتجاوز تقارير خبراء الجيش المصري بعدم وجود حشود إسرائيلية في الجولان، والنية المبيتة من اعدائه لمنع حصوله على نصر ديبلوماسي وتحطيم جيشه، وتحضيره لحرب مصيرية بمنهج "المظاهرة العسكرية" وبيانات ملتهبة واجه بها عدوا يعلم تماما نقاط ضعفه، إضافة إلى تنفيذه نصيحة الروس بعدم المبادرة في القتال حتى لا يفقد دعمهم السياسي، ما جعل ضربة إسرائيل الجوية في غاية القسوة على الطيران المصري، وأهلهّا لشرذمة قواته الارضية المضعضعة في حروبه الفاشلة في اليمن. بينما استعد السادات بشكل مستور، فقهر عدوا متغطرسا إتكل على عدم أهليته هو شخصياً، وضعف جيشه امام قوات الدولة الاسرائيلية.

 المرجح أن حرب اكتوبر مسرحية كما زعموا، حاول الملّقن قراءة سطورها للممثلين بصوت عال ليسمعها الحضور في المسرح في الوقت نفسه، إذ اصبح معروفا للجميع انه في فجر 6 تشرين أول/اكتوبر 1973 وصلت برقية من الملك حسين الى غولدا مايير في اسرائيل، تفيد باستعداد مصر وسورية لشن حرب في اليوم نفسه، وأعلنت إسرائيل في العام 2010 أن أشرف مروان، زوج ابنة الرئيس عبد الناصر ومدير مكتب المعلومات والسكرتيريا لمكتب الرئيس أنور السادات، كان جاسوسا لهم ومدّهم بخطط وموعد حرب أكتوبر، ما يجعل هذه الحرب درساً في خطورة البيروقراطية الفظيعة التي تعاملت إسرائيل بها مع المعلومات المهمة التي حصلت عليها، علاوة على غطرسة إسرائيل بعدم تصديق نية الرئيس السادات ولا أهلية طاقمه لدخول حرب.

 لم تكن حرب أكتوبر "معجزة عسكرية" فقط كما كان يصفها الرئيس السادات، لأنها تمت بين جيش حارب تحت سماء معلومات مُسربة، وعدو لم يصدق ما بين يديه من معلومات!

كيف تبخرت لاءات مؤتمر الخرطوم؟

من المفترض ان يكون السلام بعد الحروب مُرحبا به، كما هي الحال لدى الدول التي عانت اهوالها، لكن هذه البديهية الإنسانية والسياسية والاجتماعية تحولت عند الدول العربية الى وباء تقاذف الإتهامات، التي أعمت القلوب منذ 1977 حتى اليوم وغدا، لأن كل مالك وسيلة إعلامية أو مدفع أو مسدس لخطف طائرة أو كرسي حكم أو حزام ناسف مع تطور موضة الجهاد، أعطى نفسه حق الكلام والتنظيروتفسير التاريخ ورسم خطوات المستقبل، ووضع نفسه في زاوية الحق المطلق، رغم عجزه التام عن تصور رؤية مستقبلية علاوة على جهله بوقائع ماضيه، وأطلق حكما انفعالياً نهائيا على السادات غير قابل للاستئناف. وهو موروث من تاريخ الإزعان التام لأيات إلهية يجب أن تُقبل كما هي حتى لو كانت تتناقض مع التاريخ والعلم.

 المشهد غريب، فالجميع يزايدون على الجميع، والكل يتدخلون في شؤون الكل، والرؤساء يعترضون على الرؤساء، والجميع يصرخون: مؤامرة على "القضية". لكن لم يقل أحد جملة مفيدة مرّكبة من فعل وفاعل ومفعول به لكي نفهم، ما هي المؤامرة؟ أو ما هي القضية؟ لأنهم على ما يبدو هم مدبرو المؤامرة ومنفذوها ومشعلو نارها، ليستفيدوا من ارباح إدارة أعمال القضية.

 يبدو ان الوقت لم يحن بعد للمصارحة، وهي ان النظم القائمة على الشرعية الدينية والعقد الاجتماعي العشائري، تأسسوا على الاكاذيب أكثر من الحقائق، وعلى الماورائيات أكثر من المرئيات، وعلى المزايدات والتكاذب دائما. واذا لم تفلح كل هذه الامور يتراشق الجميع بالاحاديث النبوية الموضوعة لخدمة السياسة، إضافة إلى آيات القرآن متجاهلين مناسبات تنزيلها، أو تُرفع المصاحف بشكل أو بآخر على مدافع الدبابات للتحكيم.

ذكر هنري كيسنجر في مذكراته، انه كلما قابل احد القادة العرب، وتطرق في الحديث معه إلى المشكلة العربية الاسرائيلية، يبدأ المسؤول حديثا لا ينتهي منذ اتفاقية سايكس/بيكو حتى يوم اللقاء، وفجأة يتوقف عن الحديث، فلا خيال أو حل أو عرض أو إقتراح لمخرَج أو تصوّر للغد. عقم في إنتاج أفكار عملية للتعامل مع إسرائيل كأمر واقع يصعب إزالته من البحر إلى النهر كما جاء في أدبيات المقاومين.

المسألة بحاجة الى إعادة نظر ثورية علمانية وتدقيق وتوثيق، لا يبدأ كما تذكر كتب التاريخ الرسمية والمدرسية من وعد بلفور واتفاقية سايكس/بيكو، بل ترجع في سجلاتها إلى القرن التاسع عشر منذ وجود المسألة الشرقية، وهي في جوهرها إرث الرجل العثماني المريض وكيف يُوزع؟ وتأجيل اعلان وفاته، والابقاء على الخلافة العثمانية كياناً لا يسمح لها بالموت بدون إذن، لحين استقرار موازين القوى بين فرنسا وبريطانيا.

 في مقابل ذلك، هناك المسألة اليهودية وهي في جوهرها قضية تشتيت اتباع ديانة سماوية مشرقية، معترف بها في كل الاديان المشرقية كمصدر ومرجع لها، والنداء الاسطوري بالعودة إلى الارض المطبوع في جينات اليهود. مسألة إنسانية تحتاج للدرس والفحص بعيدا عن الاساطير الدينية وتجاهل الحقوق والعنصريات غير المقبولة. صحيح أن الاسرائيليين إغتصبوا جزءا من فلسطين، لكن هذه المسألة المدعومة من المجتمع الدولي والموافق عليها ضمنا من الدول العربية سنة 1948 كيف تُحل؟ أحقية اليهود في "الارض المقدسة" وفقا للقرآن، كيف لا يشرحها الفقهاء للمسلمين؟

 سبق نابليون الجميع في الحض على نشأة دولة يهودية فى فلسطين، وطنهم الموعود المختار، عندما نادى امام ابواب القدس: "ايها الاسرائيليون إنهضوا فهذه هي اللحظة المناسبة".ولا يعني هذا أن نابليون صناعة يهودية كما يحلو لبعض المنظّرين الزعم، وأن هذه التوجهات البونابرتية لو نجحت، تكون فرنسا حصلت على النصيب الأكبر لاحقاً في إرث تركة الرجل المريض، وتكون في موقع أقوى من بريطانيا، الطرف الآخر المتنازع على ميراثه.

 إستعمل نابليون ورقة اليهود، وهي ذات مصداقية أهم من زعمه الذي قدمه للمسلمين فى مصر، عن صداقته للخليفة وإقتناعه أو إعتناقه الاسلام، وبعدما اجهضت بريطانيا خطط نابليون، بورقتيه اليهودية والاسلامية، استمرت عجلة تاريخ العالم العربي في الدوران حول أو مع المسألتين الشرقية واليهودية؛ منذ عهد وزير الدفاع البريطاني اللورد بالمرستون، إلى عهد محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة حتى ظهور هرتزل، وما حدث منذ ايام السلطان عبد الحميد الثاني الذي تم خلعه بعد عدم موافقته على تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، والوثيقة بالغة الخطورة التي كتبها السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن آل الفيصل أل سعود للمندوب السياسي البريطاني في منطقة الخليج برسي كوكس، ثم فترة ماكمهون مرورا باتفاقية سايكس/بيكو، وبعدها الثورةالعربية بقيادة الشريف حسين واولاده، فوعد بلفور إلى وثيقة فيصل مع حاييم وايزمان في العقبة، والامراء الهاشميين عبدالله وحسين، إلى مصر في عهدالملكيّن فؤاد وفاروق، حتى العهود الجمهورية بدءاً من محمد نجيب الى عبد الناصر حتى السادات، مرورا بفترة قدوم المارد الاميركي للمنطقة وانتزاعها من البريطانيين المتهالكين.

 كل هذا تاريخ يحتاج الى تدقيق وتوثيق وبحث وصبرأكثر من احتياجه الى اجتهادات دينية، ونظريات صحافية جاهزة منقولة كما هي العادة عن مصادر ثقة، لنفهم على الأقل ماذاحصل ولماذا؟ مَن إتفق مع مَن ومَن لم يتفق؟ أين تكمن مصالح المنتفعين والرافضين؟ مَن أعطى ومَن اخذ؟ من وافق على منح فلسطين إلى "اليهود المساكين" كما ورد في وثيقة الملك السعودي السلطان عبد العزيز، رغم ان بلاده صاحبة موقف إعلامي يرفض حتى وجود اليهود في فلسطين! "لماذا" في كل الاحوال؟ من فاوض سرا وما مصالح مَن لم يُفاوض؟ وكيف جرت الامور بين حكومات لا تقدّر عواقب أفعالها في المستقبل وشعوب لا تعرف سوى التصفيق والتكبير ولعن اليهود في صلواتهم؟ وكيف اصبحت الامور اخيراً بين خصمين أحدهما واعٍ والآخر مغيّب عن الوعي.

 الامانة والمصداقية والبعد عن الكلام العشوائي والوضوح والتخطيط، مجموعة صفات نادرا ما تجتمع في العالم العربي. ومن أجل ذلك لابد من التدقيق والبحث بعيدا عن كلام الاعلام ومزايدات القادة امام المنابر، فبعد اغتيال الملك عبد الله وظهور فكرة القومية العربية، دخل الصراع العربي الاسرائيلي في متاهات، واصبح الكلام لا يحمل معناه، وصار ضروريا العودة إلى مراجع ووثائق الدول المتضلعة في الازمة.

 عُقد مؤتمر الجامعة العربية في آب/أغسطس 1967 في الخرطوم، بحضور معظم رؤوساء وملوك وامراء العرب وانتهى هروباً من فضيحتهم امام شعوبهم المذهولة من الهزيمة باعلان عاطفي بعد هزيمة مُنكرة على الارض: لا إعتراف، لا تفاوض، لا سلام مع إسرائيل. ومن مضابط جلسات المؤتمر الواردة في مذكرات محمود رياض، المحفوظة في أرشيف الجامعة العربية ننقل حرفيا كلام عبد الناصر الذي قال: "يجب ان نضع في حسابنا نقطتين اساسيتين عندما نتعرض لموضوع العمل السياسي لازالة اثار العدوان وهما: الإعداد العسكري والصمود الاقتصادي. ويجب علينا ان نضع في حساباتنا ايضا ان هناك اتفاق بين اميركا والاتحاد السوفياتي على حل القضية، بالصيغة التى عبّر عنها المشروع الذى كان مطروحا على الجمعية العمومية، والذي ركّز على نقطتين رئيستين وهما انهاء حالة الحرب وانسحاب إسرائيل من الاراضي العربية المحتلة.

 ارجو ان يكون واضحا لدينا اننا عندما نتكلم عن العمل السياسي فإن ذلك لا يعنى اننا سنأخد فقط، بل سنعطي ايضا ، وهنا يجب ان نبحث ما سوف نعطيه، وبمعنى اخر ما الذى نستطيع ان نعطيه ايضا.

 الموقف العالمي حالياً يختلف تماما عما كان عليه في سنة 1956، ففي ذلك العام اتفقت اميركا والاتحاد السوفياتي على الوقوف في وجه العدوان الثلاثي، اما في عام1967 فقد اتفقت الدولتان على حق اسرائيل في الوجود، كما اتفق الاثنان على انهاء حالة الحرب".

 ثم اضاف الرئيس عبد الناصر: "وهنا ينبغى ان نطرح على انفسنا سؤالا اخر هو: هل يمكن استعادة الارض المحتلة عن طريق الحل العسكري؟ اعتقد ان الاجابة واضحة عن هذا السؤال، وهي ان الطريق ليس مفتوحا امامنا في الوقت الحاضر. إذن ليس امامنا سوى طريقا واحدا الان، هو العمل السياسي من اجل الضفة والقدس".

 جاء تشرين الثاني/نوفمبر 1967 وصدر قرار مجلس الامن رقم 242، وحاولت الدول الكبرى أن تجمع بين مطالب العرب المهزومين وهي الانسحاب الاسرائيلي بدون قيد أو شرط وهو مستحيل في الاعراف الدولية، وعدم جواز احتلال الاراضي بالقوة وهو ايضا مستحيل، والمطالب الاسرائيلية المشروعة وهي الاعتراف بوجودها داخل حدود آمنة، ووافق الرئيس عبد الناصر على هذا القرار. وهكذا تبخرت اول "لا" من مقررات مؤتمر الخرطوم غير الواقعية؛ لا اعتراف باسرائيل.

 موافقة الرئيس عبد الناصر تعني سياسيا انه أعطى دليلاً ملموساًعلى تأكيد مصر واستعدادها لقبول حل سلمي، لإستحالة الحل عسكرياً، وبدء السير في طريق الحل سياسيا، كما قال عبد الناصر ولم يعترض احد المجتمعين عليه في الخرطوم. وعند مراجعة الذاكرة الاعلامية للإذاعات العربية عن عبد الناصر في ذلك الوقت، لا يجد المرء سوى المزايدات عليه، إضافة الى تهجمات بعض صحف بيروت، التي كانت ترفع ضغطه وتزيد اوجاع مفاصله وترفع نسبة السكر في دمه إلى أعلى درجاتها، ما جعله يغلق اذاعة "صوت فلسطين"، التي كانت تبث من القاهرة، ويشوّش على بقية الاذاعات الشقيقة الثورية.

 هكذا طارت أول "لا" في مؤتمر الخرطوم بواسطة الرئيس عبد الناصر، وتكفل الرؤساء العرب بباقي اللاءات، رغم المزايدة بها على صمودهم امام شعوب لا تعرف سوى التصفيق والتكبير.

السلام يسير على قدمين فرعونيتين في إسرائيل

 بعد حرب حزيران/يونيو 1967، كانت الجبهة العسكرية الوحيدة التي لم تهدأ مدافعها هي المصرية، أمّا الجبهات الاخرى كافة فكانت هادئة بشكل يثير التساؤل والريبة، لأن رصاصة واحدة لم تطلق منها. وفي ظل تصاعد حرب الاستنزاف ونتيجة لتدهور الوضع على الجبهة المصرية الاسرائيلية، رأت الادراة الاميركية إنه من الضروري وضع حد للتصعيد العسكري بين البلدين، وقدمت مبادرة عُرفت باسم وزير خارجيتها “روجرز”، لايقاف اطلاق النار، خصوصا بعد ان تم تهجير السكان من مدن قناة السويس بالكامل، على ان يستأنف غونار يارنغ، مبعوث الامم المتحدة آنذاك، عمله لوضع قرار مجلس الأمن الرقم 242 موضع التنفيذ.

 اعلن الرئيس عبد الناصر موافقته على مبادرة "روجرز" اثناء وجوده في موسكو، وهي اشارة بليغة للحائط المسدود الذي وصل اليه مع الكرملين، وإذ بالدول التي لا تطلق رصاصة في وجه اسرائيل، تفتح نار إعلامها مرة اخرى على عبد الناصر بمهاترات كلامية لا تقدم رؤية أو حل أو تصور.

 في آب/اغسطس 1970 عقد الرئيس عبد الناصر اجتماعا لمجلس الامن القومي المصري، محضره موجود في ملحق صور الوثائق بوزارة الخارجية المصرية تحت الرقم 11، وهو مدون بخط يد المستشار أسامة الباز، احد اعضاء فريق التفاوض في كامب ديفيد، وبُدأ الاجتماع بكلمة مقتضبة من عبد الناصر قال فيها: "انا في هذه الجلسة اريد ان اسمع منكم وأن تناقشوني بدون رسميات أو قيود من أي نوع. اريد ان تفتحوا فكركم حتى لوتصورتم انه يخرج عما تعرفون او تظنون انه سياستي".

 بدأ محمد رياض فقال: "المحصلة تختلف عن المرحلة الماضية في اننا مقبلون على عملية هي من وجهة نظر الولايات المتحدة جديدة أكثر جدية. صحيح انها وافقت على قرارمجلس الأمن 242، لكنها لم توافق من قبل ابداً على تنفيذه. الولايات المتحدة وجدت اننا صمدنا وهي تريد الان حل المشكلة، و لكن أي حل؟ هل هو تنفيذ قرار مجلس الامن بأمانة و عدل أم هو حل لا يصل الى هذا الحد؟".

 تدخل الرئيس عبد الناصر وقال: "أهم شيء قاله السفير محمد رياض هو اننا نبدأ مرحلة جديدة ، يجب ان نتجه لها بتفكير جديد ، فيجب ان نبعد عن الالواح القديمة المكررة، سواء في واشنطن أو نيويورك أو القاهرة. وفي مجال الاعلام، نحن لم نغيرمبادئنا في الموضوع، لكن العملية التكتيكية التي نعمل بها تتطلب حرق اوراقنا القديمة والبدء باسلوب جديد".

 ثم تطرق عبد الناصر في هذا الاجتماع الى إمكانية حلول سلمية، وعلاقات مختلفة مع أميركا والاتحاد السوفياتي، وعن الاعلام قال: "يجب ان نكسب الرأى العام الدولي، والاعلام مطلوب منه أن يقوم بحملة كبيرة. على أي حال، في كل ما يتعلق بالانفتاح عندكم “Free Hand” حرية كاملة، ليس عليكم حدود. ليس هناك حّد إلاّ الاصرار على الانسحاب الكامل من جميع الاراضي المحتلة بعد 4 يونيو 1967” .

 ولآن الرئيس لم يقدم أي تصور واضح، أحجم المجتمعون على الكلام المُباح بطلب منه، لأنه هو نفسه افتقد أي رؤية عملية جديدة بعد حصار المهاترات والظروف السلبية له بما فيها تدهور صحته، ورحل عبد الناصر بعد اسابيع من هذا الاجتماع .

 بعد هدوء مدافع حرب اكتوبر، وإتفاقيتي فض الاشتباك الاولى والثانية (اللتان تناولهما الاشقاء بالمهاترات، لكن سورية لم تزل تجددها) وفتح قناة السويس، دخلت المنطقة مجددا الى مرحلة اللاحرب واللاسلم وإنتهى مشروع "جنيف" الى طريق التسويف من المُزمع إشتراكهم فيه كافة، وبدا الجميع انهم بحاجة الى نظرة جديدة، والمرجح ان الرئيس السادات، وحده في هذه الفترة، قد تخلص من إثم الاعتقاد في العقل الجمعي الاسلامي بأن اسرائيل يدخل التعامل المباشر السياسي معها في تابوه "الحرام"، ورأها دولة تقوم على العدوان والمراوغة في ترسيم حدودها، كما يبدو انه لم يرغب التورط في تاريخ سياسة ما وراء

الكواليس التي حدثت مرارا بين دول عربية وإسرائيل، فتوصل الى رؤية اراد قياس وقعها على من حوله، ومن ثمة ناقش بعض مستشاريه فكرة ذهابه الى إسرائيل وتحفظ معظمهم، واعتقد الباقون انها مناورة لدفع الحركة السياسية الى الامام، بدلا من المراوحة العقيمة في الظروف نفسها. وختم السادات استشاراته بانطباع يُفهم منه انه غيّر رأيه، لكنه في الحقيقة أضمر مواجهة السياسيين اليهود وجها لوجه بدون وسطاء، أو حساسيات ضغوط الاساطير و"الحرام" والتاريخ والصراع الدموي.

 كانت الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية "أمان" في الوقت نفسه، ترى عدم وجود تغيّرات في المقولات الشعبية العربية حول إسرائيل، إضافة إلى عدم وجود أي تغيير لمفهوم السلام في الشرق الاوسط، ومن ثمة إعتقدت ان السادات وصل إلى مفترق طرق وأن أمامه خيارين هما: الحرب مرة أخرى أو الدخول في مسار وعراقيل ومماحكات مؤتمر جنيف للسلام. وبشأن الجانب السوري كانت "أمان" ترى ان دمشق دخلت مستنقع لبنان ومشاكله الطائفية ومشاكل مسيحييه مع منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل، ويستحيل عليها مشاركة مصر في حرب مثل عام 1973. هكذا رأت مراكز ابحاث "أمان" أن الخيار المتوقع للجميع بمن فيهم إسرائيل هو التعايش المسَّلح أو الحرب مع مصر.

 في عصر الاربعاء 9 تشرين الثاني/نوفمبر 1977 ذهب السادات الى مجلس الشعب المصري لالقاء خطاب، صاغه الكاتب الصحافي موسى صبري بناء على طلب منه، واثناء دقائق الخطاب الاخيرة، ازاح السادات الاوراق المكتوبة جانبا وقال :"لا يجب أن يخشى جنيف أي عربي ابداً، أنا جاهز للذهاب إلى جنيف، بل لا أخفيكم وأنتم ممثلو الشعب وعلى مسمع من شعبنا وعلى مسمع من أمتنا العربية، سمعتوني أقول انني مستعد أن أسافر إلى آخر هذا العالم إذا كان في هذا ما يحمي أن يُجرح أو يُقتل عسكري أو ضابط من اولادي".

 توقف السادات لحظات وضجت القاعة بالتصفيق إستحسانا لبلاغته الخطابية ليس إلاّ، لكنه واصل حديثه وقال: "أنا أقول: مستعدٌ أن اذهب إلى آخر العالم، وستُدهش إسرائيل عندما تسمعني أقول الان أمامكم، انني مستعد للذهاب إلى بيتهم ..الكنيست ذاته.. ومناقشتهم". وإنفجرت قاعة مجلس الشعب بتصفيق متقطع، بعد لحظات من الوجوم، وكان أول المصفقين وقوفا ياسرعرفات، الذي لم يكن يعرف مع اعضاء مجلس الشعب والمواطنين الذين يشاهدون التلفزيون خلفيات هذه الفقرة السابقة.

 اعتقد ياسر عرفات ان العبارة خطابية طلباً لتصفيق الشعب العربي فكان أولهم، وهكذا اعتقد الباقون، ولما علم السادات ان وزير الاعلام منصور حسن طالب الصحف عدم اظهار هذه الفقرة في عناوينها الكبرى، اكّد له جدية الذهاب الى إسرائيل لبحث السلام وطالبه ان تنشرها عناوين الصحف، فالامر ليس مناورة أو زلة لسان أو بلاغة خطابية.

رد بيغن على هذه المبادرة بلهجة مَن لا يصدق، حين قال هاتفيا لصديقه الصحافي الاسرائيلي شلومو نكديمون في السابعة من صباح اليوم التالي تعليقا على خطاب السادات: "بخصوص إستعداد السادات لمقابلتي حتى لو كان ذلك في الكنيست في القدس، وإذا لم يكن ذلك مجرد بلاغة إنشائية، فإنني أعلن ترحيبي باستعداده هذا، وأكرر تصريحي الذي أدليت به عند توليتي لمنصب رئيس الوزراء، وهو أنني على إستعداد لمقابلة السادات في أي مكان، حتى لو كان هذا المكان القاهرة، وذلك من أجل التفاوض لإقرار سلام حقيقي في الشرق الاوسط".

الرد يعني أن احدا لم يكن على إستعداد لتصديق عرض السادات حتى بيغن، لكن نجباء الاعلام العالمي تلقفوا تلك الاشارة بالغة الأهمية لأول مرة في الصراع العربي الإسرائيلي، وبدأ السادات التعامل مع الكاميرات لأنه كان من اوائل المدركين لأهمية "عصر الصورة والبروباغندا"، وقوتها في الضغط على الخصوم تماما مثل الجيوش، وفي الساعة الواحدة ليلا بتوقيت القاهرة في اليوم نفسه، اجرى وولتر كرونكايت وبربارا وولترز حديثا ثلاثيا معه من بيته بالجيزة ومع بيغن عبر القمر الاصطناعي.

سألا السادات: متى ستذهب إلى إسرائيل؟

اجاب : كل ما في الامر إنني أنتظر الدعوة المناسبة.

سألاه : هل تعني إنك يجب أن تتلقى دعوة مباشرة من السيد بيغن، وليس من خلال الاعلام؟

اجاب :تماما.. تماما.

كانت مفاجأة للمستمعين ان يعلن كرونكايت أن على الخط الآخر معه مناخم بيغن، وسأله :

  • متى يمكن أن تبعث للسادات الدعوة المنتظرة؟
  • سوف أطلب خلال هذا الاسبوع من صديقي السفير الاميركي لدى إسرائيل، أن يعرف من زميله السفير الاميركي في القاهرة، ما إذا كان مستعدا لمنحنا بعض وقته، كي ينقل رسالة مني إلى الرئيس السادات، ادعوه فيها رسميا وبكل ود عن طريق الولايات المتحدة للمجيء إلى القدس.

عاد المذيع للرئيس السادات وسأله:

  • إذا تلقيت هذه الدعوة رسميا فكم يلزمك من وقت حتى تكون مستعدا للذهاب؟
  • في الحقيقة، أنا أتطلع إلى هذه الزيارة بأسرع وقت. قال السادات.
  • هل يمكن القول بأن هذا يمكن أن يتم خلال إسبوع؟
  • يمكنك أن تقول ذلك.
  • ولكن هل ستقولون ذلك؟
  • أجل. ولم لا؟ كما قلت لك في أقرب وقت ممكن.
  • إذا مضى كل أمر بشكل حسن ووصلتكم دعوة رسمية غداً أو نحو ذلك، من رئيس الوزراء بيغن، فهل تذهب إلى إسرائيل؟
  • أجل .. أجل.
  • وتجتمع ببيغن وأعضاء الكنيست؟!
  • أجل.

عاد كرونكايت إلى بيغن وكأنه غير مصدق لما سمعه وسأله:

  • هل ستتخذ الخطوات اللازمة لتحريك هذه المبادرة السلمية الجديدة من ديالوغ بعيد المسافات، إلى لقاء شخصي وجها لوجه؟
  • غدا سأذيع بيانا في برلماننا بعد الظهر، واعتقد انني سأتصل بعده فورا بصديقي العزيز السفير الاميركي، مستر لويس، لأرى ما يمكن عمله. أؤكد لك يامستر كرونكايت اننا راغبون حقا في السلام، وفي أي يوم يكون مستعدا للحضور فإنني سوف أستقبله مرحبا في المطار وأصحبه إلى القدس واقدمه أيضا إلى الكنيست وأدعه يتحدث إلى برلماننا، وسأتبعه إلى المنصة وأحييه وأستقبله بعد كلمته، وأعتقد ان الامر الآن متروك للرئيس السادات ليحقق، إذا جاز لي القول، وعده أو يستثمر إستعداده للحضور إلى القدس. 

 طار السادات والوفد المرافق من الاسماعيلية الى مطار بن غوريون في تل ابيب، ولاحظ مرافقوه ثبات ملامحه التي لا تدل على شيء من الاثارة أو العصبية أو القلق غير الطبيعي، لهكذا لقاء غير عادي. ورغم هذا الثبات الخارجي قال السادات لأحمد بهاء الدين في حديث إعلامي عن لحظات خروجه من الطائرة إلى سلمها حتى وصل إلى أرض المطار:

  • أتظن ان الامر كان مختلفا بالنسبة لي؟ تقول إنكم عندما رأيتوني على سلم الطائرة وقعت قلوبكم في أقدامكم. أنا كنت في حالة من شبه الغيبوبة والدوار، ونزلت درجات السلم وكأنني لا أشعر بالدنيا من حولي، ولم أسترد أعصابي وانتباهي، إلاّ عندما وجدت نفسي أصافح الذين كانوا في إستقبالي. إنني أفهم هذا ومستعد أن أقبله جدا من الكثيرين.

 خرج السادات من لحظات غيبوبته العصبية ليرى خصومه بعينيه لأول مرة في إسرائيل. وكان في استقباله كل اعضاء الحكومة ومعظم أعضاء الكنيست ومئات الاعلاميين، وبدد توترات جميع المسؤولين الكبار حرارة تصفيق وهتاف الناس الحماسي، ما أعطى السادات الثقة بسبب عدم فتور مستقبليه، تحت ضوء الحدث الباهر وفلاشات الكاميرات غير المنقطع، واحاطت به اصوات منفعلة صادرة من الناس المرتبكين في المطار،بينما كان المسؤولون الاسرائيلون يغلب عليهم الصدمة والانفعال، ما حدا بغولدا مايير ربما إلى تذكّر آية من التوراة تقول: "يكون هناك طريق بين مصر وإسرائيل"، وإذ بها تقول لنفسها بصوت مسموع لمن حولها أكثر من عشر مرات "امر لا يصدق"ّ. وكانت المصافحة بينها وبين السادات هي الأطول وقتا والأكثرمودة، وأهدته خلالها هدية رمزية الى حفيده المرتقب ولادته، فاندهش السادات ان تهتم مايير بتفاصيل عائلته الشخصية. وتحول وجود الرجل صانع التاريخ الى ما يشبه رؤيا توراتية تسير على قدمين فرعونيتين على أرض إسرائيل في القرن العشرين.

 اذا نحينا جانبا المزايدات العربية والاسلامية عن مبادرة السلام الخالدة وسألنا: ما الذى دعا السادات لهذه القفزة ؟ لماذا كانت مبادرة السلام وكامب ديفيد والمعاهدة؟ ثم تجاهلنا اسباب الرئيس، وسجلنا ما قاله الشارع المصري وقتها قبل أن يدخل في غيبوبة تناسي تاريخه وترديده هلوسات المستفيديدن من الاسلام سياسيا لسمعنا: "لقد جربنا العمل العربي المشترك، ولم يأت بنتيجة. تعبنا من كل الخيارات السابقة وصرفنا المال وفقدنا اولادنا وتحولنا الى بلد فقير. جربنا السوفيات واثبتوا عجزهم عن الحل وتآمرهم على مصر لسبب غير مفهوم. واجهنا اميركا ففرضت نفسها على المنطقة وعلينا. لماذا لا نجرب خيار السلام والتعامل مع اسرائيل كأمر واقع يصعب انكاره؟".

صيام ارثوذكسي في الجولان وإفطار في لبنان

قيل عن الحشد الجماهيري غير المألوف الذي استقبل السادات بعد عودته من اسرائيل، ان جهاز الامن في القاهرة قد دبّره وأخرجه*. واذا افترضنا صحة هذا الزعم، رغم استحالة دفع خمسة ملايين مواطن إلى الشوارع، معظم سكان القاهرة آنذاك، بواسطة جهاز أمن العاصمة، فإن هذا الجهاز لا يستطيع شراء طبول ومزامير ودفوف وطبول لكل هؤلاء، أو حثهم على الهتاف الهستيري والزغاريد والتصفيق والبكاء.

خمسة ملايين مواطن استقبلوا السادات وصوتوا إيجابا في الشوارع لصالح مبادرته، لكنهم لم يستطيعوا تحريك القلوب الصخرية التي تفبرك الاشاعات، أو اقلام الحواة والهواة في البازار السياسي والناقلين عن مصادر موثوق بها وسياسات ما وراء الكواليس بين القبائل العربية والاسلامية، وقد كثرت الاجتهادات لمبادرة السادات، وهي معروفة ومتروكة لحكم التاريخ، لكن لا يمكن ان نقول ان هذه المبادرة الانسانية الفذة قد أتت من فراغ. هنا بيت القصيد، والخطوة التي سبقت زمانها قبل حلول عصر التنوير الاسلامي.

وافقت مصر على القرار 242 ايام الرئيس عبد الناصر وهو اعتراف ديبلوماسي بدولة إسرائيل. ثم ان البيان الذي وقعة أهم كّتاب ومفكرو مصر سنة 1972 ومنهم نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ولويس عوض وحسين مؤنس، جوهره ومعناه أن يصرف السادات النظر عن الحرب ويبحث عن طريق آخر هم على استعداد للتمهيد له، فلا احد له مقدرة هزيمة اسرائيل التي تحظى بتأييد العالم كله. وقد جرب السادات الحرب فوجد الولايات المتحدة الاميركية امامه وجها لوجه، بعد ان مدّت خطا مباشرا للمساعدات بينها وبين اسرائيل، بعد بداية حرب أكتوبر بستة ايام عبر جزر الآزور، ووجد بعد الانتصار متاهات تريد وأده.

هناك عوامل شخصية ايضا لا يمكن إغفالها عند تناول أي قرار سياسي؛ أنور السادات فرعون وفلاح مصري أصيل يؤمن أن الارض هي الشرف، وما دام أي انسان يحتل ارضه فإن شرفه في مهب التاريخ لأي طامع. علاوة على يقين السادات أن العمل العربي المشترك مستحيل، ونفاق العرب يعيق أي تقدم حقيقي لأي إتفاقية حتى لو كانت إقتصادية، مع عدم إغفال إنه لازم عبد الناصر في جميع نكباته العروبية! والرجل الثاني يسمع عادة أكثر ما يُقال بدون تحفظ. ومن المرجح انه أيضا من مدرسة سعد زغلول باشا، زعيم ثورة 1919، الذي اجاب على سؤال عن اسباب عدم إعتماده على العرب لعرض قضية مصر عالميا فقال: العرب يساوون صفر + صفر + صفر!

 كان السادات من انصار مصر أولا، فحول إسمها الى جمهورية مصر العربية بدلا من الجمهورية العربية المتحدة. وكان من انصار عودة سيناء أولا، لأنها شرفه، فوضع هذا نصب عينيه حتى حققه. كما كان يعرف مزايدات السوريين والفلسطينيين منذ ايام عبد الناصر. والمؤكد أنه قد تأمل مشهد العالم العربي وقتها؛ احداث الحروب الأهلية اللبنانية التي بدأت ارهاصاتها فعليا منذ العام 1973، وموقف سورية منها وفيها، ومحاولات إمساكها بالورقة الفلسطينية وتلاعبها باللبنانيين، وتحركات الملك حسين ومقابلاته في السر مع زعماء إسرائيل كافة، وتسريبه موعد حرب أكتوبر إلى غولدا مايير، ناهيك عن تنظيرات ثوار المقاهي وتهويمات ياسر عرفات وسياسة العلاقات العامة التي ينتهجها.

 أمّا على الصعيد العالمي فقد رأى الاتحاد السوفياتي مضعضعا (99% من اوراق اللعبة في يد اميركا. قال السادات) وكان لا يثق أساسا في الاتحاد السوفياتي ويؤمن بمحدوديته في ايجاد حلول، ويشك في إمكانية حضور برجينيف إلى جنيف نظرا لموقفه من موسكو وطرده الخبراء العسكريين الروس من مصر. كما كان السادات ذا حساسية تجاه المؤتمرات التي يعرف خلفياتها التي تنسف مفعولها قبل انعقادها، والروتين الذي يشّل تنفيذ أي قرار لها، لذلك نظر بعين الريبة إلى مؤتمر قمة يُعقد في القدس الشرقية يحضره رؤساء الدول الكبار وأعضاء مجلس الامن الدائمين، ودول المواجهة ومعهم ياسر عرفات أسير جمهورية الفاكهاني في لبنان، وسورية المتورطة في بيروت آنذاك للسيطرة على منظمة التحرير، وسكرتير الأمم المتحدة الذي لا حول له ولا قوة سوى تقديم النصح، وينفّض هذا المؤتمر عن مقترحات قد لا تُنفذ لعمل السلام ولا تُلزم إسرائيل بتنفيذه.

كما قرأ السادات خشية الرئيس الاميركي كارتر على جهوده الشخصية في الدعوة لمؤتمر السلام في جنيف في كانون الاول/ديسمبر 1977، وكان على علم بإفتقار التعاون بين البيت الابيض ووزارة الخارجية الاميركية في مسألة أزمة الشرق الاوسط. ورغم انه كان يقول إعلاميا "صديقي كسينجر"، إلاّ انه كان عالما بنيته تعطيل أو نسف مؤتمر جنيف واستبداله بسياسة "الخطوة .. خطوة" الخبيثة التي قد لا تقود إلى حل، بل إلى وضع العراقيل في كل خطوة لنسف الخطوة التي بعدها، ما يجعل السيطرة الاسرائيلية تزداد واقعيا على الارض، في ظل عدم إلتزامها بتاتا بأي قرار دولي.

 كان المشهد يدعو الى اليأس بالنسبة للباحث عن حل، أو إلى إدارة الازمة بالشعارات إياها للذين همهم كراسي الحكم. والمؤكد إنه من اجل كل ما سبق وما كان يعرفه السادات شخصيا بعيدا عن النشر، اتخذ قرارا نهائيا غير قابل للمساومة، وفاوض بنفسه بدون سماسرة سياسيين ولمصلحة بلده، ضاربا عرض الحائط بكل الاوهام العروبية، ونصائح أمناء القضية، وهو على يقين راسخ باستحالة وجود حل شامل سريع لمشكلة إنسانية عسكرية سياسية ذات ابعاد مالية وعقد نفسانية وتابوهات دينية في وقت واحد، فبدأ من ارض الواقع، غير مبال بإدانات عربية يستحيل ان تؤدي الى حلول، أو بقطع علاقات ديبلوماسية. وقد لعب خصمه الذي طرده من مصر، الاتحاد السوفياتي، دورا لا يستهان به. فماذا يُفهم من تنديد دول مثل كوبا وموريشيوس أو انغولا، بسلام بين مصر واسرائيل، وإستخدامهم لعبارات عجيبة مثل: هذا سلام معيب ملطخ بالدم. سيناء لن ترجع لمصر. إتفاقية السلام خيانة للعالم العربي ولشعب فلسطين! بل خيانة للشعب المصري! ما هي علاقة مثل هذه الدول في نزاع الاسلام السياسي ضد الصهيونية السياسية ؟

 في 26 آذار/مارس 1978 وُقعِت معاهدة السلام، وفي 9 نيسان/ابريل 1978 وافق مجلس الشعب المصري عليها بموافقة 329 عضوا، وإعتراض خمسة عشر عضوا، وامتناع عضو واحد عن التصويت. وفي 19 نيسان/ابريل 1978 حصل إستفتاء شعبي على المعاهدة نال 96% من الاصوات.

 من وجهة النظر القانونية كانت إتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية الاسرائيلية مكونة من جزئين. جزء أول خاص بمصر وإسرائيل، وجزء ثان خاص بتحقيق حكم ذاتي للفلسطنيين، يكون في نهايته حق تقرير مصيرهم بأنفسهم. وقد قيل في سوق المزايدات العربية ان إسرائيل لن تنسحب من سيناء، وكل ما في الامر انها تريد ابعاد مصر عن العرب، وعقد صلح منفرد تماطل في تنفيذه. لكن إسرائيل انسحبت في المواعيد المقررة في المعاهدة تماما رغم إغتيال الرئيس السادات. وقيل هناك بنود سرية، واثبتت الايام والسنوات عدم وجودها، وأن كل ما في الاتفاقية هو البنود المُعلنة فقط .

 إذا كان كل ذلك في حكم الماضي، الا انه كان في وقتها هو النغمة الشرسة السائدة، ومازال المزايدون يلقون بنتائج دورهم كمرتزقة منتفعين من حياة الازمة على أنور السادات، وقد فشل الجزء الثاني الخاص بالفلسطنيين، بعد اعتراض الفلسطنيين انفسهم، بسبب ضغوط عربية هائلة عليهم، بحجة انهم لم يعطوا مصر تفويض بالمفاوضة عنهم، ناهيك عن تعنت الاسرائيليين من الجانب الاخر، ما ادى الى ترجيح أراء المتشددين من الطرفين وإجهاض هذا الجزء من كامب ديفيد.

 مصرلم تخترع مضمون او مصطلح "الحكم الذاتي" بل هو موجود في ميثاق الامم المتحدة، وأكثر الدول العربية التي رفضت فكرة الحكم الذاتي، كانت تحت الحكم نفسه وقت الاحتلال أو الانتداب لحين الاستقلال واعلان الدولة، كما حصل للعراق وسورية ولبنان والجزائر. وحاولت مصر ان تصل الى نتيجة مقبولة لكنها فشلت. وكان الامر المريب أن تجتمع نوايا وافعال المزايدين العرب والاسرائليين معا على إجهاض الحكم الذاتي الفلسطيني.

 وماذا بعد ان فعلها العميل الخائن أنور السادات بذهابه الى اسرائيل، وتوقيعةعلى معاهدة كامب ديفيد والسلام وإرغامه مصر عليها مكرهة، وإحضاره بطرس غالي المسيحي المتزوج من يهودية ليكون المهندس الاكاديمي للانهزامية العربية؟ هكذا قالوا هم وقتها!

هل أدت سياسة صدّام حسين الذي هدد ملوك وامراء الخليج بوصوله إلي مخادعهم وقتلهم لو أيدوا السادات إلى أي نتيجة؟ هل حررت الفصائل الفلسطينية فلسطين عن طريق جونيه؟ وماذا عن المفرقعات السياسية للعقيد القذافي التي حاول في واحدة منها ان يكون فيلسوفا افريقيا بعد كفره بالعروبة؟ وحاول في أخرى ان يحل المسألة بعد ثلاثة عقود على ثوريته باقتراح إعلان دولة اسمها "إسراطين" تضم الطرفين الفلسطيني واليهودي ليعيشا بسلام. اين حماسة الجزائر الثورية بقياس طول بعدها عن اسرائيل؟ ما نتائج سياسات سورية البعث التي لم تزل تجدد اتفاق الكيلو 101 منذ سنة 1973؟ سورية التي حافظت على صيامها الارثوذكسي امام اسرائيل ولم تطلق رصاصة واحدة على جبهة الجولان بعد حرب تشرين، وأفطرت على لحوم الفلسطينيين في لبنان لإدخالهم بيت الطاعة الدمشقي، وعلى اجساد اللبنانيين بكافة طوائفهم ومذاهبهم، حتى يعود من يجروء على عصيانها إلى صوابه.

 لم يدر الزمن غير عقد واحد، وكان مؤتمر مدريد وجاءت الوفود العربية تباعا مع الوفد الاسرائيلي والراعي الاميركي لبحث السلام. وقد تمخض ذلك دائما عن مسارين، أحدهما متعدد والاخر على مستوى كل دولة، وفشلت المفاوضات المتعددة، وفاوضت كل دولة منفردة بنفسها ولنفسها كما فعل السادات! واُعيد مرة اخرى وثانية وثالثة مشهد لقطة كامب ديفيد، وسرقوا مصطلحات انور السادات وأشهرها "سلام الشجعان" و"صراع الحضارات".

 كان السادات يقصد التنافس الحضاري، وقد شرح وجهة نظره هذه للمشير عبد الغني الجمسي، الذي اعلن عن امتعاضه لتجريد سيناء(المنطقة أ وهي المتاخمة لحدود إسرائيل) من السلاح تنفيذا لاتفاقية السلام، فقال له السادات: "صراعنا معهم منذ الان سيكون حضارياً. لماذا نخاف؟ مصر عمقها ليس طول سيناء بالكليومترات، نحن عمقنا التاريخي أكثر من عشرة الاف سنة". حتى هانتينغتون اقتبس فكرة السادات عن "صراع الحضارات"، وحولها الى شيء آخر تماما.

 

*هناك نتيجة استفتاء شعبي هائل آخر نال السادات نجاحها، ولم تحدث في تاريخ السياسة بتاتا، عندما استقبلت القاهرة الرئيس الاميركي نيسكون بالعدد نفسه من الناس تقريبا سنة 1974، وخرجت الجماهير واصطفت على امتداد 220 كيلومترا وهي مسافة السكك الحديدية بين العاصمة والاسكندرية، لتحيي السادات ونيسكون اللّذين لم يغادرا شرفة القطار لحظة لتحية الناس، الذين صوتوا ضمنا لصالح دخول الولايات المتحدة الاميركية إلى منطقة الشرق الاوسط.

 من طرائف هذه الرحلة ان الرئيس نيسكون لم يصدق جرأة عشرات الألوف الذين وقفوا تقريبا ملاصقين للقطار المندفع في مدينة طنطا ليروه عن قرب شديد وهم يهتفون باسمه على وقع الطبول، وان الاسكندرية، المدينة المتحفظة بطبعها حتى ذلك الحين، استقبلت الرئيسين بامطار كثيفة من الرز الذي إنهمر بدون انقطاع من الشرفات، جعلت الرئيس نيسكون يرفع يديه ويشبكهما تحية لأهالي احياء سيدي جابر وكليوباترا وسبورتنغ، وهي الاحياء المتاخمة لمحطة السكك الحديدية حيث استقل الرئيسين عربة مكشوفة نقلتهما إلى قصر رأس التين، الذي اختفت الدرجات النارية المصاحبة للموكب فجأة عند مدخله، ليحل محلها فرقة خيّالة رافقت سيارة الرئيسين إلى بوابة القصر الداخلية، والرئيس نيسكون في ذهول مما يراه من حفاوة.

 حضر الرئيس نيسكون إلى مصر وهو يعاني من جلطة دموية في قدمه اليسرى، وعندما عاد إلى الولايات المتحدة اكتشف فريقه الطبي المُعالج ان الجلطة ذابت! وفُسر الامر بتأثير حرارة الاستقبال الشعبي غير المتوقع على الرئيس المحاصر آنذاك بفضيحة "ووترغيت".

 

ايام اليقظة والانقلاب على المستفيدين من الاسلام سياسياً

رحل الرئيس أنور السادات سنة1981. ورغم ذلك لم تزل هناك اسئلة بدون اجابات، ومفارقات تائهة في طرق اُريد لها ان تكون مُلتبسة غير مفهومة. أمّا العداوات التى أحدثها حربا أو سلاماً فظلت كما هي، فمن زايد وأدان من البداية ما زالت دولته مصرّة على موقفه بعد وفاته أو توريث الحكم، بل وضعوا كل مصائب المنطقة التي تحدث حتى اليوم على عاتق السادات منفردا، رغم ان آخر يوم عمل له كان 5 تشرين أول/أكتوبر 1981، وكأن كل حكام المنطقة مجرد دُمى في كورس كبير لا حول لها ولا قوة سوى الترديد، ومن تراجع عن موقفه أو تفهّمم، وقّع اتفاقيات سلام مع استعمال "لو"و"لكن". وتظل سورية هي اللغز الأعظم حتى اليوم، منذ فبركة خبر أمر الحشود المزعومة على الجولان سنة 1967، ثم رفض نور الدين الأتاسي لقاء عبد الناصر بليفي إشكول السري في موسكو قبل 5 حزيران/يونيو 1967 بدعوة من روسيا لحل الازمة سرا وبدون حرب، واعلان سقوط القنيطرة قبل 17 ساعة من دخول الجيش الاسرائيلي إليها، والدولة الوحيدة المتاخمة لإسرائيل التي لم توقع إتفاق سلام معها، باعتبار لبنان لا قرار سياديا له سوى من دمشق وطهران وجدة!

عن نزعة دينية وعدم تبّصر بالعواقب السياسية والاجتماعية، وكل واحد له سذاجاته وأساطير طفولته التي تتحكم فيه مهما بلغت عظمته امام الناس، إستعان الرئيس أنور السادات بالتيار الديني لمحاربة الشيوعية، ووضع نفسه على رأس هذا الاطار، بالايحاء للإعلام باطلاق لقب الرئيس المؤمن عليه، للحد من انتشار تيار الشيوعية السياسي وليس الالحاد، فالمصريون مؤمنون بالفطرة حتى لو كانوا شيوعيين، لكنه أفاق من أساطير طفولته وعدم تقديره وقصر نظرته لعواقب خطورتهم إجتماعيا وسياسيا وحتى دينياً، وأدرك ان كل ما فعله لهذا التيار كان ضد القومية المصرية، التي كان هو شخصياً من المتمسكين بها بمحبة وحساسية بالغة، وضده هو بصفته المسؤول الاول عن سيادية البلد وأمن مواطنيه كافة، فقال في خطابه الضميري بالغ الاهمية في الخامس من ايلول/سبتمبر 1981 عبارات في منتهى الحزم والقوة ضد فقه وفكر هذا التيار، بلغة عامية، أقرب الى لهجة المنوفية قريته التي ولد فيها، لم يستعملها إعلاميا من قبل، لأنه كان في منتهى الغضب من خروجهم عن سيناريو الجماعة الدينية التي وظّفها واهماً لتقليص مد الشيوعية السياسية وإعلاء شأن الاسلام، ومن تلك العبارات:

 "انا جيت غلطان إنّي طلعتهم من السجون وعطيتهم حقوقهم وخليتهم يقاضوا حتى الدولة ومؤسساتها في المحاكم". "ما فيش حد معتدل أو متطرف فيهم .. كلهم واحد". "يقوم يجي رئيس التحرير في العدد إللي بعده ويقول: الله.. اشمعنى هذا العدد إتصادر، ما إحنا قلنا قبل كده كتير وحتى أكتر من المكتوب في العدد المُصادر". "خرجوا عن حدود النقد المباح وبدأوا التجريح الشخصي". "هُمّا شهدوا على نفسهم النوبادي زي ما انتم شايفين". "أصلهم بيجروا للصحافيين الاجانب ويقولوا لهم مفيش ديموقراطية في مصر. لأ فيه ديموقراطية في مصر.. وانا قلت قبل كده ان الديموقراطية لها انياب أشرس من الديكتاتورية. "أهم وقعوا المرة دي". "خلاص..النوبادي مفيشي أنصاف حلول".

 "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين. ليكن هذا واضحا للجميع". "في كامب ديفيد.. مصر ماخرجتشي من ساحة الجهاد.. ده أسيادهم اللي بيمولهم هُمّا اللي بيقولولهم يقولوا هذا الكلام". "مفيش إرادة خارجية إنفرضت عليّ أو على مصر". "انا لا انحني سوى لشعب مصر ولا اسجد سوى لله". "بقول هذا الكلام النهارده علشان اولادي المُغرر بهم يفهموا حقيقة اللي بيحصل".

 "ده الكلام اللي قاله الشيخ البذيء. أهو مرمي زي الكلب في السجن وخلّي حد يتكلم". "هُمّا دول بقى إللي بيسمّوا نفسهم حَمَلة مشاعل النور؟!". "والمرشد .. وانا مش حقول إسمه، خلّى الست تطّلق من جوزها وتهرب من بيت أهلها وأخدها لنفسه. هو ده الاسلام؟ إنه يخلي الست تتطلق من جوزها وياخدها لنفسه".

"دول بقى امراء الجماعات أللي إختاروهم. طب ده أمير الجماعة تلميذ، أيه بيفهم في الاسلام". "دول بقى أللي بيسموا نفسهم حَمَلة لواء الاسلام".

"أخطر ما في الموضوع هو نظام السمع والطاعة لأمير الجماعة". "يعني أيه الواحد يخرج عن طوع أبوه وامه ويتبع امير الجماعة؟ طب ده القرآن بيقول: ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما. الكلام ده عن الابوين حتى لو ضغطوا على البني آدم علشان ما يكونشي مسلم.. ما يقولشي لأمه وأبوه أنتم غلطانين، يقولهم .. يعني كده.. بعدين أفكّر إني ما كونشي مسلم". "معلشي استحملوني النهارده لأنه خلاص.. المواجهة حاسمة النوبادي.. مفيشي أنصاف حلول*".

 وصلت العواصف التي احدثها الرئيس انور السادات إلى ذروتها، بوضعه لرؤوس الجماعات المستفيدة من الاسلام سياسياً، والاعلاميين المروجين لهم وللفتنة الطائفية التي حدثت في مصر في السجون، ونصيحته للأنبا شنودة رأس الكرازة المرقسية بالتزام دير وادي النطرون في خطابه المُشار إليه آنفا في ايلول/سبتمبر 1981، الذي كان طبيعيا ان يكون نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية على علم بمضمونه وقراراته، لأنه رئيس الجهاز التنفيذي الذي سيقوم بها، وكلمات الرئيس السادات له تؤكد ذلك: "إنتبه على نفسك يا نبوي اليومين دول، هُمّا صعب يطالوني لكن سهل يطالوك انت".

وربما توصل الرئيس إلى رؤية شخصية هي محاولة إستهداف الأنبا شنودة نفسه، لتعميق الفتنة الطائفية، ولذلك نصحه بإلتزام دير وادي النطرون في الصحراء، ريثما تعود الامور إلى نصابها، وإغتيال الأنبا صموئيل فقط، الجالس في الصف السابع مع عشرات آخرين في حادث المنصة، يرجح هذه الفرضية علاوة على إنتقائية اغتيال الأنبا صموئيل لسببين أولهما زيه الكهنوتي، ما جعل القاتل الجاهل يعتقد إنه الأنبا شنودة! أمّا الثاني فهو إصابة الأنبا النائم على الارض تجنبا لرصاص القتلة مثل غيره، برصاصة واحدة في خصيته اليسرى، والصور تؤكد ان القاتل صعد بسرعة عن يمين المنصة وفعل ما فعله، ثم رجع بسرعة ليشارك باقي القتلة في الاجهاز على الرئيس والجالسين في الصف الاول، لكن الدائرة الامنية الاولى بدأت في ردة فعلها باطلاق الرصاص ما جعل القتلة ينسحبون من امام المنصة.

 كان واضحا جدا ان الرئيس أفاق من رؤية غير صائبة، شجعته عدة عوامل إقليمية ودولية على خوضها والاستمرار فيها، وأدرك انه أوقع نفسه بنفسه على خطيّن متناقضيّن هما كونه رئيس دولة علمانية، يحرّض ويشجّع في الوقت نفسه عن بدء مولد دولة دينية متزمتة فيها، فحزم امره واستجمع إرادته، وتخلّى عن كلمات جلسات المودة والتكاذب، وبدأ ضرب المحرضين على الفتنة الطائفية من الجانبين بيد أمنيّة، فالتمادي في الخطأ تحريض سافر على المساس بأمن المواطنين، ما عرضه هو نفسه وليس النبوي إسماعيل، إلى محاولتي اغتيال فاشلتين قبل السادس من تشرين اول/اكتوبر 1981، الذي نصحه قبله بيوم واحد وزير داخليته، بعدم الذهاب الى العرض العسكري الذي يقام بمناسبة الاحتفال بنصر اكتوبر.

  • عندي اخبار بأن هناك "دوشة" ستحدث غدا. قال الوزير.
  • لو كان مقدرا لي ان أموت يانبوي، سأموت في منزلي. ردّ السادات.
  • إذا اردت حضور العرض، فعلى الأقل ضع السترة الواقية ضد الرصاص عليك. قالت السيدة جيهان زوجته.
  • سأكون بين اولادي ولا داعي لكل هذا الخوف. قال الرئيس بعد تفكير.

 رغم ذلك التحذير بالغ الخطورة، لم يبال أنور السادات سوى بهيبة الدولة نفسها، لأنه يعلم انها إذا إنكسرت فمن الصعب ترميمها، فقرر حضور العرض العسكري ضارباً عرض الحائط بكل التحذيرات الامنيّة، ومن المرجح إنه كان يعتقد ان محاولة إغتياله ستتم في الطريق إلى العرض، ورغم ذلك وحرصاً على هيبة الدولة إستقبل عند العاشرة صباحا تقريبا نائب رئيس الجمهورية حسني مبارك ووزير الدفاع عبد الحميد ابو غزالة اللذين وصلا إلى منزله، وغادروا إلى ارض العرض العسكري في سيارة مكشوفة، رغم إمتعاض بعض افراد الدائرة الامنية الاولى كما تؤكد بعض الصور! حيث كان الضيوف ومعظم اركان الدولة في إستقبالهم. وبعد مراسم وضع الزهور عند هرم الجندي المجهول، المكتوب على كل حجر فيه اسم شهيد من شهداء حرب اكتوبر، اتجه الرئيس الى المنصة ليبدأ العرض العسكري الذي كان يعشق حضوره، وبينما

كان سائرا إليها لاحظ وجود قناصين على سطحها، فطلب اخلاء اماكنهم حتى لا تكتب الصحافة العالمية انه خائف من "اولاده". وعندما جلس في المنصة سأل الرجل الجالس على كرسي امام حائطها تماما، عن سبب

وجوده، فقال له انه لحراسته، لكن السادات طلب منه ان يذهب مع حرسه الخاص الى الصفوف الخلفية، فليس من داع امني لوجودهم؛ فقد وصل الى المكان، المفترض أمنيّا ان يمر الجميع أمامه بدون طلقات في أسلحتهم.

* طلب الرئيس السادات من اعضاء مجلس الشعب، في مجلس الامة حيث ألقى الخطاب المشار إليه، ان يتحملوه لأنه لاحظ تململهم من خطابه المفصّل الذي امتد اربع ساعات وعشر دقائق، رغم إنهم قاطعوه عدة مرات بتصفيق طويل حار، وإستحسان بكلمات مسموعة في جنبات القاعة من بعض النواب، بسبب صراحته وجرأته ووقفته الشجاعة امام اناس تهدد من يعصيهم بنار جهنم وعذاب أليم في الاخرة لأنهم محتكرو فهم الاسلام، والناطقون الرسميون لله.

أمّا تسمية احد المشايخ بالشيخ البذيء فسببها ان هذا الإمام في احد جوامع الاسكندرية كان يطلق في خطاباته يوم الجمعة ومن على المنبر على زوجة الرئيس "سيئة مصر الاولى" بدلا من "سيدة مصر الاولى"، وكان يتطاول عليها وعلى ثيابها ومصافحتها للرؤساء الاجانب، ويتهكم على كل افعالها ومشاريعها الاجتماعية، إضافة إلى تحقيره للمسيحيين وتحريضه المصلين عليهم، وتأجيجه لمشاعر الفتنة الطائفية بين المسلمين.

 

قتلنا الفرعون! إهرب بارك الله فيك

كان الرئيس أنور السادات على ثقة كاملة في ولاء جيشه له، لذلك لم يفكر بتاتا في تغيير مكانه، المُعد كما يبدو للفرقة الموسيقية العسكرية، بينما يجب ان يجلس هو وكبار الضيوف في آخر المنصة! وكان الحاضرون وهو منهم في الصف الاول مكفهري الوجوه، بسبب تقرير وزير الداخلية. وصور العرض العسكري كافة تؤكد ان العسكريين منهم نسوا خلع الكاب العسكري من على رؤوسهم بمن فيهم حسني مبارك والرئيس نفسه في الدقائق الاولى، وقد زال الاكفهرارعن وجه السادات وحده بعد عدة دقائق من بداية العرض العسكري، خصوصاً بعد وقوف قائد قوافل العرض العسكري في البداية، الذي حياه بطريقة لم تحدث في كل العروض العسكرية السابقة، اذا وجّه مدفع دبابته إلى المنصة ونكسّه بمجرد وصول فوهتها باتجاه الرئيس الذي ابتسم ابتسامة كبيرة له وحياه برفع اليد، ثم اخذ يتابع قوافل الفروع المختلفة في القوات المسلحة بعد ان خلع كابه العسكري، وبدأ يتجاذب التعليقات مع نائبه ووزير دفاعه، الذين كان يحيط بهم في ذلك اليوم بعض سفراء الدول وملحقين عسكريين في السفارات، اضافة إلى معظم اركان الدولة وشيخ الازهر الذي كان يجلس خلفه مباشرة وأسقف البحث العلمي الأنبا صموئيل الذي كان يجلس في الصف السابع على يسار الرئيس، وضيوف اخرين بينهم نساء واطفال.

 قبل نهاية العرض العسكري بحوالي عشر دقائق، انحرفت عربة تقطر مدفعا عن مسارها في قافلتها، عن سابق تصور وتصميم من المسيطرين عليها، بعد تفتيشها (المُفترض) ومرورها من الحواجز الامنية قبل الدخول الى طريق القوافل العسكرية، وفُتح بابها المواجه للمنصة، ونزل ضابط منه وتقدم عدة خطوات وألقى قنبلة يدوية لم تنفجر داخل المنصة، فانتبه الرئيس الذي كان يتابع تشكيلات طيارات العرض العسكري المختلفة والألوان التي تطلقها، ووقف امام الحشاش الاول الذي كان يصرخ: ياكافر يافرعون يا ابن الكلب، ورد السادات بصوت مرتفع: إرجع ياولد انا مش حسيبك! فرجع الحشاش واحتمى بالعربة، ولما رأى الرئيس بدء اطلاق الرصاص عليه من عدد آخر من الجنود في مؤخرة العربة المكشوفة قال: "مش معقول"، وعندها قفز الحشاشون منها باتجاه المنصة التي وقع الرئيس على ارضها بسبب رصاصة اصابته في عظمة الترقوة لجهة اليمين من حشاش كان على ظهر العربة، سرعان ما ألقى بنفسه على ارض العسكري مع الآخرين، واندفع الحشاشون الاربعة نحو المنصة لإزهاق أكبر عدد من النفوس، وهم يقذفون قنابلهم اليدوية الاخرى ويطلقون الرصاص، بينما الناس يهربون إلى المدرجات الخلفية أو يحتمون بالكراسي لعدم وجود من يدافع عنهم، وسكرتير الرئيس محمد عبد الحافظ يغطيه بجسمه حتى لا تصيبه رصاصات آخرى، اما العسكريون في الصف الاول فقد إحتموا حسب خبرتهم خلف حائط المنصة الخرساني نفسه.

 تعطل رشاش قائد فرقة الحشاسين الواقف امام الرئيس بمتر واحد تقريبا، فنادى على أقرب الحشاشين وأخذ رشاشه منه قائلا: قلتنا الفرعون! روح بارك الله فيك! كانت هذه البرهة كفيلة بأن يطلق العقيد أسامة مازن، الموجود في الصف الخامس خلف الرئيس، رصاص مسدسه عليه مباشرة، وهذا سر اصابته برصاصتين والقول السخيف بأن رصاصات نفذت في جسد السادات من الخلف، الذي ذكر التقرير الطبي انه توفي جراء صدمة عصبية شديدة، وليس حتى بسبب الرصاصات التي اصابته، أو كسر أعلى الحوض بسبب إلقاء الناس الكراسي عليه لحمايته! كما ذكر الخبراء الجنائيون العسكريون ان الطلقات في جسده مطابقة تماما للموجودة في رشاشات الحشاشين، وتؤكد افلام العرض العسكري كافة أن العقيد مازن بدأ إطلاق رصاص مسدسه بعد ان وقع الرئيس وانبطح الناس على الارض خوفاً، وألقى سكرتيره محمد عبد الحافظ بنفسه عليه ليقيه من رصاصات اخرى.

 الحديث السابق ملخص ما جاء في الكتب التي تحدثت عن جريمة الاغتيال، وما سجلته الكاميرات الموجودة خارج وداخل العرض العسكري، لكن نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية النبوي إسماعيل آنذاك، ذكر في كتاب "النبوي اسماعيل وجذور منصة السادات" إنه تبلغ باغتيال الرئيس في المنصة قبل بداية

العرض العسكري بلحظات، وقد وصله ذلك التحذير بواسطة مُخبر، جعلت البيروقراطية رسالته تصل إليه متأخرة، وبرر جموده وعدم تصرفه بسرعة بأن الوقت لم يسعفه لعمل شيء لإنقاذ الرئيس!

 أمنياً، كان على وزير الداخلية ان يطلب من افراد الدائرة الامنية الاولى، المنتشرين في المنصة، مرافقة الرئيس والذهاب به فورا إلى منزله بالهليكوبتر الموجودة في ارض العرض العسكري، وتجاوز بروتوكول ضرورة وجوده في الاحتفال، لأن حياة رأس الدولة مهددة، ثم يطلب من وزير الدفاع وقف مرور القوافل العسكرية فورا وإنهاء العرض العسكري، حرصاً على حياة ضيوف العرض وهيبة مصر، لإخلاء مسؤوليته تماما من تحذيرالاغتيال الذي وصله وليس "الدوشة" التي قال للرئيس عنها، في حال لم تستجب الدائرة الامنية الاولى أو وزير الدفاع لطلبه.

 الوقائع التالية، ليست لإتهام أحد بل للتأمل، لأنها تثبت بما لا لُبس فيه ان اموراً غير مفهومة حتى اليوم حدثت في ذلك الظهر، وتُؤكد ان الحدث الرهيب في المنصة أخفي وراءه حقائق وقائع الاغتيال عن بصائر الناس، إضافة إلى صراخ خالد الاسلامبولي والحشاشين الآخرين في المحكمة انهم قتلوا الطاغوت الكافر الذي أهان علماء المسلمين، والاكاذيب التي قالوها واخذتها هيئة المحكمة اقوالا نهائية، في اجواء متشنجة داخل الجلسات نفسها لأهمية القضية موضوع النظر إعلاميا، والعواصف السياسية التي احدثها الرئيس اثناء حكمه.

 التحقيق نفسه كان به قصورا لانه إنحسر في واقعة المنصة فقط، وليس ما قبلها والتمهيد لها. وحتى هذا التحقيق، فيه قصور ومخالفة للقانون وأصول التحقيقات الجنائية، إذ كيف يكون احد المتهمين في جريمة شاهداً أصليا فيها، لأن ممدوح أبو جبل، الضابط في المخابرات الحربية، كان سراً ضمن جماعة الجهاد، وهو الذي أعطى الحشاشين إبر إطلاق الرصاص والرصاص الحارق والقنابل وقال في التحقيق: إنهم قالوا لي أن أعطيهم كذا وكذا. ولم يسأله المُحقق من هم الذين قالوا لك ذلك! هذا الضابط لم يُستبعد من الخدمة رغم ما فعله، حتى لو حُوّل لشاهد في القضية، لكنه رُقي وذهب ملحقا عسكريا في بعثة ديبلوماسية خارج مصر.

 سالم رحّال، الذي كون تنظيم الجهاد الذي ينتمي الحشاشون قتلة السادات إليه، فلسطيني، قبض الأمن عليه، ثم رُحّل الى الاراضي الفلسطينية في شهر تشرين الثاني/نوفمبر، بعد شهر من واقعة إغتيال الرئيس، لأنه غير مشارك في واقعة المنصة وغير مرغوب فيه بمصر.

 قائد قافلة العرض العسكري رُقي وأصبح مدير المدرسة الحربية. تم ترقية الفريق أبو غزالة إلى رتبة مشير، رغم إنه لم يقم بعمل عسكري باهر، وهو وزير الدفاع الذي كان موجودا في المنصة، والمسؤول معنويا عن التقصير الذي حدث.

 أخذت المحكمة العسكرية كلام المسؤولين عن نقاط التفتيش العشر الموجودة قبل المنصة بشكل نهائي، رغم أن مرور الرصاص والقنابل المستخدمة في الجريمة، قد يكون إلى حد ما مقنعاًعند النقطة الاولى، وكان المسؤول عنها ضابط في سرية الاسلامبولي نفسه، يعرفه ويثق فيه فجعله يمر بعد سؤاله: هل تأكدت من كل شيء يا خالد؟ لكن مرور القتلة بالرصاص والقنابل من تسع نقاط تفتيش بعدها وفيهم إثنان مدنيان من خارج الجيش لا يحملان بطاقات عسكرية أمر غير مُفسر إطلاقاً.

 لم تلق المحكمة أي شكوك بتاتا على اقوال سائق العربة التي نقلت الحشاشين كيلومترين، وهي المسافة من نقطة الانطلاق إلى منصة السادات، ولم تعتبره حتى مشاركا بالصمت والتواطؤ، فمن غير المعقول إنه مرّ على عشر نقاط أمنية وهو يرتعد من الاسلامبولي، لدرجة إنه لم يغمز حتى بعينه إشارة ريبة إلى أي مسؤول عن احد هذه الحواجر المُقامة، في ظروف تشير كلها إلى إحتمال إغتيال السادات، وحتى عندما إنشغل الحشاشون باطلاق النار لم يتحرك حركة عنيفة بالعربة ليقذف بهم من على سطحها، أو لكي يجعل رصاصاتهم طائشة على أبسط تقدير لجندي مثله، أو ينحرف بها إلى اليمين ليدهس بها تشفيا الضابط الخائن لقسمه ووطنه وشرفه العسكري خالد الاسلامبولي، الذي هدده بالقتل بشكل وضيع حسب ما قال في التحقيق إذا لم يقف امام المنصة.

 حسب رأيي الخاص، أعدمت المحكمة العسكرية أداة الجريمة، ولم يحاسب المجتمع المصري جريمة فكرها المتطرف الذي نهش جسد مصر ولم يزل، واستنتاجي الشخصي ان خروج أنور السادات من حركة

التاريخ كان مُرحباً به ومطلوبا في صمت، غير مرغوب في البحث الجدّي عن تفاصيله، ليس لأنه رجل سلام كما يُشاع، لكن لقدرته وحده على لجم دكاكين المستفيدين من الاسلام سياسيا، آنذاك، ليتحول الامر بعد ذلك، حسب خطة مجدولة منذ الاطاحة بنظام شاه إيران، إلى تجارة دولية عبر البحار بفضل قوة المال الحلال في الشرق وإدمان رائحة وأموال النفط في الغرب!

*القصد من مصطلح "فرقة الحشاشين" ان فعل "يغتال" باللغة الانكليزية “assassinate” مشتق من كلمة حشاشين العربية، ولم يكن معروفا قبل ذلك سوى فعلّي kill اوmurder . الحشاشون فرقة شيعية معروفة في التاريخ الاسلامي كانت تستخدم الاغتيال كاسلوب في التعامل السياسي، واطلق خصومهم عليهم حشاشين لأنهم اعتقدوا إنهم كانوا يتعاطون حشيشة الكيف قبل تنفيذ اغتيالاتهم، التي وصلت ذروتها بمحاولتي إغتيال صلاح الدين الأيوبي مُحرر القدس من الفرنجة. ورغم شيعية الاسلوب فقد دخلت مفرداته العمل الديني المُسيّس الوهابي.

 

منصة العرض العسكري والمنصات الاخرى

صحيح أن السادس من تشرين أول/اكتوبر 1981 يوم اغتيال السادات، لكنه قمة جبل الجليد العائم الذي لم ير العالم الجزء الأكبر منه، المخفي تحت مياه المحيط وقتها، وهو النتائج اللاحقة نتيجة غزل الدول الكبرى مع المستفيدين من الاسلام سياسيا لتمكينهم من الحكم.

 المتطرفون في مصر وزعوا شرابا مجانيا تهنئة بقتل السادات مساءً، بعدما حلقوا ذقونهم جميعا خوفا بعد الظهر، تحسبا من إصابته فقط حسب ما اعلن التلفزيون المصري، والثوريون العرب اذاعوا اغنية "إفرح ياقلبي" عدة مرات بمجرد إعلان إغتياله رسميا، وصعد بعضهم إلى أسطح المنازل وأطلقوا رصاص الرشاشات إبتهاجا، ووضعت الدولة الإيرانية اسم الحشاش الاول في فرقة الاغتيالات تيمنا وشرفاً على احد شوارع طهران.

 الدولة المصرية ذات الهيبة التي حافظت عليها ظروف عدم إغتيال أركان الدولة كافة كما كان مقررا، توحدت تقريبا كافة مانشيتات صحفها تحت عنوان متشابه هو "إغتيال صانع السلام"، وإنتقلت السلطة إلى نائب الرئيس حسني مبارك، وسارت امور الدولة طبيعية، وإنسحبت إسرائيل في نسيان/أبريل 1982 إلى حدودها المُتفق عليها في إتفاقية السلام.

 الشارع في العالم الغربي دُهش فعلا من إغتيال السادات، ولم يفهم مظاهر شماتة معظم العرب والمسلمين، خصوصا تشفي الملتحين والمتشددين الذين خرجوا من البذرة التي زرعها السادات نفسه، برعايته وتركه للتيار الديني يترعرع سياسياً في مصر.

 دُهش المواطنون في العالم آنذاك لأنهم لم يدركوا ابعاد ونتائج الاجواء الدولية التي باركت وتعاونت مع التشدد، ومنها السادات نفسه، منذ منتصف سبعينات القرن العشرين واطلقت عليه صحوة إسلامية، ثم وضعت الخوميني على دكة الحكم ليصّد التيار الشيوعي في إيران والدول المتاخمة، وإحتفت بالمتشددين الذين يقاومون الغزو السوفياتي في أفغانستان، واستقبل الرئيس ريغان ممثليهم في البيت الأبيض مطلقا عليهم لقب "المحاربون من أجل الحرية"، ونُحت لهؤلاء مع المرتزقة العرب الذين حاربوا في صفوفهم لقب "المجاهدون" بعدما كان يُطلق عليهم "العرب الافغان" أو "الافغان العرب"، ودعمهم البابا القديس يوحنا بولس الثاني معنويا من أجل محاربة الإلحاد الشيوعي، في الوقت نفسه تقريباً الذي بدأت فيه النظم الاسلامية المتشددة تتحرك باتجاه السلطة في صراع الامم بشكل مثير للإنتباه، حسب الرؤية السياسية الدولية العجيبة، التي رأت فيها قوة تحجّم المّد الشيوعي السياسي، وأدت في ما بعد للصدام مع هؤلاء أنفسهم، وهو الصراع الذي يُطلق عليه "الحرب ضد الارهاب"، لأن عدم فهم تكتيك وهدف هؤلاء الناس وفقه مموليهم المتزمت بالغ الخطورة، تسبب في هذه الأزمة التي لا يعلم احد نهايتها ولا كيفية الطريقة التي ستنتهي بها، بعدما ستدفع حضارات وثقافات الكوكب كافة ثمنها.

 المستفيدون من الاسلام سياسيا، وفرق الحشاشين والانتحاريين والارواح المُفخخة ادواتهم العسكرية، استخدموا تكتيكات متشابهة اينما وجدوا للوصول إلى مآربهم، وفي مصر 1981 كانت خطوتهم الاولى محاولة تفريغ الدولة من اركانها بعد إغتيال الطاقم الحاكم وزرع الفوضى لسقوط مصر نفسها بعد فقدان هيبتها، لأنهم لا ينتمون إلى وطن محدد بل إلى فقههم الخاص، ويسعون إلى إنشاء إمارات إسلامية، تكون الحاكمية فيها لله والطاعة لأمير الجماعة، بعد حياتهم في مجتمع منغلق على نفسه، يُكفّر الاخرين حتى لو كانوا مسلمين غير مؤمنين بما يؤمنون به.

 إستغل الانسان نفوذ الدين على مدى العصور، ليقيم ديانة نفوذه ويصبح الآمر الناهي والناطق باسم الله، وبشكل عام، تمسك كل الذين استعملوا سلطة الدين بقشور إجتماعية ثقافية، لينشروا عتمة العقل ويحكموا بعد إغراق الناس في ما لا طائل من ورائه، ويبعدوا الناس عن الجوهر نفسه وهو عبادة الله فقط.

من جهة اخرى، لا يوجد نص واضح في القرآن أو الاحاديث النبوية عليه إجماع الأئمة الكبار، يطلب من المسلمين إنشاء دولة إسلامية. المطلوب سُنياً اليوم هو أسلمة المجتمعات صراحة. وحتى دولة الفقيه على الصعيد الشيعي وُجٍدت بفتوى منفردة من الخوميني ليؤسلم البطاركة المسلمون إيران ويبتروا أو يدجنوا كل من ليس مسلماً.

 سمعنا عن الخلافة الاموية والعباسية والفاطمية والدولة المملوكية والدولة الايوبية ثم الخلافة العثمانية، ولم نسمع عن "دولة إسلامية" لأن فكرة الدولة كهيكلية ودستور وكيان وتمثيل ديبلوماسي ظهرت متأخرة بعد ظهور الاسلام، وإذا تساءلنا: هل هناك دستور للدولة الإسلامية؟ سنجد أن السعودية، لا دستور فيها لأن التقليد الذي بناه الرسول محمد، وهم يسيرون عليه، لم يكن دولة، بل كان عقدا بين حاكم ومحكوم، في صورة عهد وبيعة بين القبائل العرب ومرجعهم/النبي، وعهود امان لغير المسلمين الذين عاشوا في اراضيه مقابل دفع جزية.

 من هذه الوقائع يمكن فهم عدواة المستفيدين من الاسلام سياسياً مع السادات الذي جعل الشريعة الاسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع في الدستور المصري، وقصد حسب سيناريو ما حدث شيئا إعلاميا يُرضي به الجماعات الاسلامية التي اطلقها ليحارب الشيوعية بها، ثم أدرك تماما ان ذلك الامر لم يؤد سوى إلى تمكينهم من مؤسسات الدولة المصرية والتطاول عليه شخصيا، واستغلال الامر من جهات غير مصرية، ما جعل ثقافة مصر وقوتها الناعمة وتقاليدها الاسلامية والمسيحية الخاصة بها في خطر.

 لم يقصد السادات حسب الوقائع بناء دولة دينية أو احياء خلافة، لأنه هو شخصيا أظهر احتراما للأديان كافة، بما فيها ديانته الفرعونية المتأصلة فيه، وكان يريد أن ينهي حياته مكرساً دعوة خاصة بعد تشييد "مجمّع الاديان" في سيناء، وكان رجل سلام ومحبة وصاحب نية واضحة للبعد عن الصراع الدموي، وكرجل دولة تجاوز كل بروتوكولات وتابوهات المسلمين في التعامل مع اليهود وإسرائيل، لكنه ادرك في ما بعد إنه فتح الباب بنفسه في مصر لرجل الدين المتطرف ليدخل مجال السياسة.

 هل أدرك السادات في ايامه الاخيرة أن الشريعة يستحيل ان تكون ضمن أصول وهيكلية ومؤسسات دولة، فهي مجرد إطار اخلاقي لسلوكيات الناس في قبائل صحراوية، وليست إطارا سياسيا وديبلوماسيا، ويستحيل ان تكون مصدر دستور أي دولة في العصور الحديثة؟

 هكذا يمكن فهم الجزء غير المرئي من جبل الجليد العائم في مصر 1981، الذي انتشر لاحقا بارادة دولية في الدول ذات الكثافة الاسلامية كافة، ثم هاجر إلى معظم دول العالم في بعثات مدفوعة الاجر، ذات توجه فكري محدد وثياب متشابهة رغم تعدد الثقافات التي هاجر الناس منها، لينشر افكاره ويعيش في جزر نفسانية منعزلة عن بقية الثقافات التي هاجروا إليها ولم يندمجوا فيها أو حاولوا التكيف معها على أقل تقدير، لأنهم لم يهاجروا بدافع اللجوء السياسي أو الهرب من شبح الحروب الاهلية، إلى نهاية الاكاذيب التي دونوها في اوراق الهجرة والمستندات المُلفقة التي اثبتوا بها مزاعمهم، بل لسبب آخر تماما اخذت حقائقه تتكشف، ما جعل الناس يدركون تقية المستفيد من الاسلام سياسيا، رافض الآخر وثقافته وتقاليده، زارع الانشقاقات التي بدأت تؤذي عظام مجتمعاتهم، بعد عدة "حوادث منصة" حدثت، وستحدث بأشكال مختلفة في دولهم لأن الغزل إياه ما زال قائما، وتأييد تمكين المستفيدين من الاسلام سياسيا ما زال فلسفة حكم في دول الغرب العلمانية، وهي معضلة من ثمارها سقوط جمهوريات علمانية في الشرق الاوسط وصعود موجة أسلمة المجتمعات، ومناطق إسلامية مغلقة بدأت تهدد معظم ثقافات دول العالم!

امام العرش مرة ثانية

 إنعقدت المحكمة بكامل هيئتها المقدسة في قاعة العدل بجدرانها العالية المنقوشة بالرموز الإلهية وسقفها المُذّهَب تسبح في سمائه احلام البشر، وجلس الإلهيون الحكام الكبار في محاكمة العابرين إلى الحياة الاخرى على منصة القضاء، في قاعة ماعت؛ قاعة العدل والحق والصدق.

 أوزوريس في الصدر على عرشه الذهبي، وخلفه لوحة إلهّي الامس واليوم في صورة أسدين رابضين ظهراً لظهر يدعمان الافق، أسد النهار يُسمى اليوم، والأسد الآخر هو الامس، وقرص الشمس فوقهما يمتد رمزاً للسماء، وعلى يمين اللوحة ظهرت العنقاء رمز الخلود المتجدد وبجوارها مائدة قرابين. أمّا إيزيس فقد كانت على عرشها إلى يمين أوزوريس، الذي جلس عن يساره حورس على عرشه، وعلى مبعدة يسيرة تربع تحوت كاتب الآلهة مُسندا إلى ساقيه المشتبكتين الكتاب الجامع، وقد جلس عن يسار اوزوريس أنوبيس وإسدنو.

 على جانبي القاعة كان هناك صفين طويلين من الكراسي المكسوة بلون سنابل القمح، يكملان مع منصة القضاة شكل مثلث. جلس في الصف الأيمن نوت إلهة السماء التي تعبرها الشمس في النهار والنجوم كل مساء، وماعت ربة العدالة ابنة رع وزوجة تحوت، وبقية اعضاء تاسوع أون الإلهي المقدس وهم الآلهة تمو وشو وتفنوت وسب ونوت وست ونفتيس، إضافة إلى الثامون الإلهي خالق الكون الذي أوجد العالم، وهم نوت ونوننت (المحيط الأزلي)، حح وححت (السموات اللامتناهية)، ككو وكولت (الظلمة الاولى)، آمون وأمونت (ما لا يمكن تعريفه). وعن يسار هيئة المحكمة، جلس على كراسي ضلع المثلث الثالث حضور وشهود الاثبات والنفي الذين استدعوا من اجل هذه الجلسة، وامام رأس هذا المثلث بوابة عظيمة سماوية، هي نقطة عبور الجالسين كافة إلى اللانهائية.

 قال اوزوريس مفتتحا الجلسة:

  • سجّل ابننا البار نجيب محفوظ وقائع محاكمة أنور السادات أوزوريس عام 1983، لكن اُريد إعادة إلتماس نظر هذه القضية. ورغم ان عالم الخلود لا يأبه عادة لمثل ذلك الطلب، لأن ما كُتب قد كُتب، إرتأينا وقوفه امام العرش مرة ثانية، لمعرفة تفاصيل قد تساعد الحاضرين على رؤية ضمير وقلب هذا الرجل، إضافة إلى تفهم اسباب الطلب نفسه.
  • أنور السادات أوزوريس! نادى حورس بصوت جهوري.

دخل السادات يصطحبه حابي إله النيل، الذي احنى رأسه مُقدِماً التحية لهيئة المحكمة المقدسة، ثم ذهب إلى مكانه في القاعة السماوية التي يزّين سقفها الازرق ميزان العدل العظيم، بينما وقف السادات إلى يسار منصة الحكم وقال بصوت سمعه من في القاعة:

  • قلبي ..امي، قلبي..امي. قلبي.. مجيئي إلى الوجود. عسى الاّ يكون هناك شيء يعوقني اثناء المحاكمة.. عسى الاّ يكون هناك اعتراض من أوزوريس.. عسى الاّ تهجرني كلماتي في وجود حامل كفتّي الميزان. يا من انت قرين جسدي الذي يحبك ويقوّي اوصالي.. لعلك تتقدم على موضع السعادة حيث اتقدم.. لعل الشنيت* لا يسببون تلطيخ اسمي، ولعله لا توجد اكاذيب تُقال ضدي في حضرة الإله.

ثم جلس أنور السادات أوزوريس على كرسيه بالقرب من حورس ليستمع إلى أقوال الشهود .

  • لعله يدخل بقلب جريء ويصل بسلام إلى منزل أوزوريس مرة اخرى. لعله لا يُنبذ ويرتد على عقبيه. لعله يدخل إلى مبعث السرور ويأتي إلى ما يشتهي. لعله يكون منتصرا، ولعل كل ما يأمر به يُنفذ في منزل أوزوريس. عسى ان يُسيّر وعسى أن يتحدث معك، وعسى ان يكون ممجداً على الدوام معك. إنه لن يقف ثانية هناك، والميزان قد حسم المحاكمة وصار خاليا. قال آني أوزوريس الكاتب وخادم القرابين المقدسة.
*طبقة الموظفين المقدسة.
  • قال أوزوريس: بعد الاطلاع على أوراق الشهادات المقدمة من كتب التاريخ، يبقى إستدعاء الشهود. فليُنادي حورس عليهم.

 تقدم محمد علي باشا والي مصر إلى منصة القضاة الإلهيين بعدما نودي عليه وقال: هناك فارق هائل بين الطريقة التي تسلّم بها محمد نجيب الحكم من حفيدي فاروق، والاسلوب الذي جاء به حسني مبارك للرئاسة.

  • بعض الشهود هنا قضوا إغتيالا ايضا. قال أوزوريس.
  • يبدو لي إنه إنتهى إغتيالا عن سابق تصوره وتصميمه!
  • كيف؟! سأله أوزوريس.
  • تجاوز دهاءه وحنكته وخبرته السياسية عندما فتح الباب لتيار ديني لمواجهة معارضة سياسية داخلية، لا تملك قوة دستورية ولا يواليها الجيش، حتى ذلك الوقت، لإزاحته عن الحكم، معتقدا أنه تيار يستطيع التحكم فيه، وتحجيمه وقت ما يشاء!
  • ربما لأنه غير مدرك للمستقبل.
  • تجاهل دروس الماضي! تناسى الرصاص الذي أطلقوه على سلفه عبد الناصر رغم انه كان عضوا في جماعة الاخوان المسلمين. سأتحدث عن تجربتي. أنهيتُ ميليشيات داخلية مسلحة، نهشت قوى وروح مصر، بالحسم والسيف، بدون إعتبار لأي علاقات إقليمية قد تنهار بسبب ما فعلت، ونفيت حتى زعامات شعبية لا تُحسن سوى المزايدات على هموم الناس، والامر نفسه فعلته مع بعض شيوخ الازهر طويلي اللسان الذين زجوا انوفهم في السياسة، من اجل ان يكون الحكم مدنياً. إذا كانوا يقولون ان الاسلام سياسة، فليتحملوا الرد بجميع وسائل الدولة. لا سياسة ناجحة بدون وجود دولة!
  • هم يهددون بجهنم والدولة تهدد وتُرسل للسجون. قال فولتير.
  • لماذا لا توجز تجربتك في حكم مصر رغم انك اجنبي عنها؟ سأله أوزوريس وهو يبتسم لفولتير.
  • لا احد من معظم المصريين يرى مصر كما ينبغي! انا رأيتها فعلا كما هي. مصر! رفضت كل الامارات التي عُرضت عليّ حتى وصلت لحكمها وفعلت من اجل سواد عينيها كل شيء، لكن تلك الدولة التي بنيتُ دواوينها ومؤسساتها تصدعت يوم 11 فبراير 2011! هزمتهم سنة 1818، فركبوا موجة شباب متحمس وردوا الصاع، وعادوا بعد 194 سنة بأقنعة على صهوة شخصيات مصرية افقدتها اموال النفط وعيها!
  • هل تعتقد ذلك حقا؟ سأل الإله.
  • نعم. من المفترض الاّ يمس الايمان بالدين العقيدة القومية! هذه عقيدة حياتي.
  • ولماذا حدث الامر؟
  • دجل ديني مُسيس ايها المبجل!
  • وهل رأى السادات أوزوريس مصر كما ينبغي؟
  • إلى حد ما. لكننا بنينا هذه الدولة على الانفتاح والتعددية وقبول الآخر، وفتحنا الباب لكل وافد فانفتح العالم علينا وجلب خبراته لتطوير مصر. لم نضع الدين في حساباتنا كحكام، كما لم يأبه المستعمرون به لأنهم إستعمرونا جميعا! لم يحدث في عهودنا أي إضطهاد أو تمييز بين مصري وآخر بسبب الدين. دستور 1923 يشهد على ذلك.
  • أعلم ان إنجازاتك فاقت الرومان والروم البيزنطيين والعثمانيين والمماليك، كيف ترى السادات أوزوريس من خلال خبرتك كحاكم لمصر؟
  • حاول الانفتاح على العالم، لكنه انغلق على جزء مهم من شعبه. إنجازاته الحقيقة غير ما ورد في الاعلام. معظم رجال إنقلاب يوليو مسؤولون عن التمييز بين المواطنين، وهو لم يحاول تصحيحه من الجذور حين جاء إلى الحكم.
  • كيف؟
  • من الغريب ان السادات أوزوريس قد تهكم على الدولة الاسلامية الإيرانية وآياتها وملاليها في زمانه، لكن ظاهر الامور يقول انه قد إتخذ من الدين سلاحا لمحاربة الشيوعية. سلاح خصومه نفسه لمحاربة من لا يواليهم.
  • هل اخطأ حسب ما ترى؟
  • نعم، لكن الانصاف يقتضي القول أن هناك تيارات خارجية موّلت لانتشار الدعوة الوهابية في مصر، التي تفشى كثيرا ما بعد عهده، لدرجة انها اصبحت وظيفة سياسية للإرتزاق، وليست صفة لرجل الدين ضيق الافق.
  • وما حكمك عليه؟
  • كرجل دولة، أعلم تماما شروط الكبار في الهزائم والانتصارات، لذلك أقدًر تماما ما فعله ومصر مهزومة أو منتصرة، خصوصا ما فعله بجرأة مشهودة عكس إرادة الكبار احيانا. تجنب تماما اوهام إقامة إمبراطوريات، فهي مهما بلغت عظمتها وقوتها إلى زوال لتنافر عناصرها، وتبقى الدول القومية عبر الزمان لوجود مقومات حياتها فيها. وهو شخصيا أول من تنبأ بزوال الامبراطورية السوفياتية، وتمرد على نفوذها داخل وخارج مصر. امتلك عبقرية البساطة وقدرة فهم الآخرين كما هم لا كما يقولون عن أنفسهم وكانت عزيمته لا تلين.

 سعد زغلول. نادى حورس.

  • أعظم أفعال السادات أوزرويس كرئيس انه لم يتكل على العرب حربا أو سلما، وتكليفه للمشير أحمد إسماعيل في أول اكتوبر 1973 شاهد على هذا الامر، إضافة إلى تجاهله كل اليافطات الكاذبة العربية وزيارته لإسرائيل.
  • وماذا عن الاسوأ؟ سأل أوزوريس.
  • انت عالمٌ تماما بتاريخ ثورة 1919 ودور مسيحيي مصر قبلها وفيها وبعدها، ولن أزيد! ثم نظر إلى السادات أوزوريس معاتبا.

لكن الدكتور فرج فودة ترجم نظرات سعد زغلول وسأل السادات من مقعده: كيف تعلن سنة 1980 إنك رئيس مسلم لدولة إسلامية يقطنها بعض الاقباط؟ ألاّ تعلم أن الاقباط أصحاب مصر؟ الآ تعلم أن اجدادنا أقباط؟ ما الفارق بينك وبين الخوميني أو المُلا عمر؟

  • إعتراض وجيه مقبول. قال أوزوريس.
  • الظروف العامة والخاصة دفعتني لأقول ذلك. لكن لا تنسى انني قلت ايضا ان الشرق الاوسط قبل الخوميني غير الشرق الاوسط بعده. وهذه إشارة إلى خطورة فكر هؤلاء. قال السادات.
  • تناقض واضح وخطأ سياسي رهيب غير مبرريّن من شخص محنّك مثلك! على أية حال، كانت الاقدار غير رحيمة بمصر وبالمنطقة كلها عندما توفيت في المنصة، لأنك كنت القادر الوحيد على ردع التيار الذي صنعته، وأفقد مصر في ما بعد روح مذهبها الحنفي السمح وصبغها بالوهابية المتزمتة! رد الدكتور فرج فودة.

نادوا على عبد الناصر. قال أوزوريس.

 نهض عبد الناصر من مجلسه وتقدم إلى القضاة الإلهيين وهو يبتسم للسادات وقال مخاطبا أوزوريس:

  • فعل هذا الصديق ما لم أستطعه. وصلت سنة 1967 إلى مفترق طرق لم استطع تجاوزه، أو رؤية ما على جوانب طريق المستقبل. كان همي البقاء على رأس نظام في دولة مهزومة تُواجه التشهير والتجريح، في إنتظار ظروف افضل لعمل سياسي ما.

لم يكن بمقدوري بتاتا إتخاذ قرار بطرد الخبراء السوفيات من مصر أو عبور قناة السويس أو زيارة إسرائيل مثلما فعل. كانت الاقدار رحيمة بمصر حين رحلتُ وتركته نائبي. قيل الكثير عن لقاء مرتقب بيني وبين غولدمان، لكن لم أملك الجرأة لعمل ذلك، كما قيل الكثير عن إنقلابه على مبادىء ثورة يوليو، لكنه لم يخنها.

هناك مثل عندنا يقول: كل شيخ وله طريقته. وقد حكم بطريقته، ويكفيه انه دفع حياته ثمن اخطاء الثورة وعداواتها بالكامل.

  • وأخطرها تهجير الجاليات التي كانت تحفّز ثقافة المجتمع المصري نحو الانفتاح على الآخر، وهزيمة 1967، والتعامل مع الدول العربية بوجه إعلامي يناسب الشعوب، بينما كلنا نعلم تاريخ سياسيي هذه الدول، إضافة إلى تهميش مسيحيي مصر عن المشاركة في قراراتها السيادية. قال الدكتور سيد القمني.

 مايلز كوبلاند. نادى حورس.

 تقدم كوبلاند إلى منصة القضاة الإلهيين وقال: الفارق الحاسم بين أنور السادات أوزوريس وأي زعيم عربي آخر هو أن ما صرّح به في السر قاله علنا! تجاوز ديبلوماسية ما وراء الكواليس وبدأ ديبلوماسية المسرح، وإذا نظرنا إلى أكبر زعيم شعبي عربي في النصف الثاني من القرن العشرين وهو عبد الناصر، سنجد حقيقة انه لم يعر فلسطين أهمية، لكنه دفع العداء للصهيونية على رأس جدول اعماله، ومن خلال ذلك أصبح الزعيم العربي الأوحد وبدون منازع في زمانه. بتعبير آخر، ما قاله علانية لم يكن سوى تمويه لا أكثر.

  • هل هناك أدلة على ما تقوله؟ سأل أوزوريس.
  • كان عبد الناصر يؤكد لدبلوماسيي الغرب استعداده لمباحثة إسرائيل، لكنه كان يعلن على الملأ كله رفضه القاطع لوجود الدولة اليهودية. بعد حرب 1967 أشار عبد الناصر سراًعلى أميركا قبوله توقيع معاهدة عدم إعتداء على إسرائيل رغم ما يتضمنه ذلك من عواقب، لكنه علناً كان يرفض التفاوض معها مُصّرا على ان ما فُقد بالقوة لا يمكن استرجاعه إلا بالقوة.
  • وماذا عن الرؤساء الاخرين؟
  • اعترف عبد الناصر إلى جون كنيدي أن بعض قادة العرب يطلقون التصريحات القاسية بشأن فلسطين، وفي الوقت نفسه يهمسون لأميركا سراً بأن مقولتهم للاستهلاك المحلي العربي. وصف الرجل بدقة ما كان يفعله هو تماما.
  • هذا غير صحيح. قال محمد حسنين هيكل من مقاعد الشهود.
  • سيأتي دورك فلا تقاطع. قال أوزوريس.
  • حتى ياسر عرفات الذي وقّع إتفاق أوسلو سنة 1993، ناشد بعده مباشرة بعض المصلين في جامع بدولة جنوبي أفريقا القدوم إلى القتال والجهاد لتحرير القدس. ما علاقة دولة جنوبي أفريقيا بفلسطين؟ وكيف يوقع على إتفاق سلام وينادي بالحرب؟ تابع كوبلاند.
  • ماذا تنتظرون من إسرائيل ان تفعل امام هذه الخداعات؟ قال بيغن بصوت مرتفع من مقاعد الشهود.
  • نحن هنا لسماع شهادات ضمائر مهما كانت رؤية المتحدث، وليس للمزايدة. قال أوزوريس.
  • من هذه النقطة تحديدا يمكننا فهم الصدمة الكهربائية الهائلة التي فعلها السادات أوزوريس بنقله ميدان الصراع إلى العلن، ما أفقد جميع الرؤساء العرب صوابهم لأنهم لا يستطيعون الاستمرار في اللعبة العلنية هذه. لقد جعلهم ببساطة يسيرون في حقول ألغام غير موجودة على خريطة سياساتهم امام العامة.

 قال كوبلاند شهادته ثم إتجه نحو السادات أوزوريس، فنهض الاخير ليصافحه فقال كوبلاند وهو ينظر متأملا في عينيه:

  • كيف لم أعرك إنتباهي في القاهرة؟
  • وفعل اللاحقون منكم ما هو أفدح! قال السادات.
  • هذا صحيح.
  • تقدّرون وتضحك الاقدار.
  • هذا صحيح تماما.

 تقدم حسنين هيكل ووقف امام أوزوريس وهو يفتش عن بداية مناسبة لمداخلته في الاوراق والملفات وقصاصات الصحف والكتب والمجلدات والاضابير التي يحملها.

  • المطلوب شهادة ضمير مختصرة فقط بعد كل ما كتبته في هذه الاوراق وقلته للإعلام! قال أوزوريس.
  • ربما رأى السادات أفضل من الجميع وقائع تلك الفترة، لكن المؤكد انه تجاهل اشياءً ضرورية، وقبل اشياء لا قيمة لها، وقامر بأشياء لا يُقامر عليها. على أية حال، هذه أفعال حياته منذ عمله تحت الارض ايام النحاس باشا حتى وصوله للحكم. كان محظوظا كبيرا وخسر حظه حين قامر ووضع في السجن أهم رجال مصر بمن فيهم انا، فكانت النتيجة إغتياله يوم حظه ومجده!
  • الراجل ده بتاع شوشرة. قال حسني مبارك من مجلسه.
  • شوشرة؟! انا؟! سأله هيكل بتهكم.
  • رجاءً عدم مقاطعة الشاهد في شهادته! قال أوزوريس.
  • أمّا إنفتاحه الاقتصادي، فحدث ولا حرج! قال هيكل.
  • لم يوجد على الارض بيت صلاة أو نظام سياسي أو نظرية إجتماعية أو قديس أو حتى نبي بدون مستفيدين ماليا. قال فولتير من مجلسه.
  • مداخلة مقبولة من فرنسوا ماري أرويه. عقب أوزوريس وهو يبتسم مرة أخرى له.
  • على أية حال، انا تأسفت لروح الامة عما بدر مني بحق السادات أوزوريس.
  • هل هذه شهادة ضميرك هنا؟ سأله أوزوريس.
  • نعم. قال هيكل باقتضاب وهو يلملم اوراقه ويستعد للذهاب إلى مجلسه.

نظير جيد روفائيل. هتف حورس.

تقدم الأنبا شنودة الثالث من القضاة وقال: كان رئيسنا على كل حال، وإن أضر بمكانة أقباط مصر وحقوقهم.

  • هل ذلك بسبب المادة الثانية من دستور مصر؟ سأله أوزوريس.
  • وغازل المتشددين وحماهم وقال عنهم اولاده المُغرر بهم عندما تطاولوا عليه. تابع الأنبا شنودة.
  • لكنه طلبك للشهادة في ما حدث مع شيخ الازهر أمام مجلس الشعب أيام الفتنة الطائفية.
  • انا لست الرئيس لأصلح الامور. نحن ننصح ونُذكّر.
  • وبماذا نصحت وذكرّت قبل وبعد ذلك اليوم؟
  • اتخذتُ دائما جانب الصمت والمتابعة، لأن قوى الارهاب تستهدف مصر برمتها، وهذه مسائل تعالجها حكمة رجال الدولة.
  • لكنك خرجت بعد ذلك عن هذه النمطية بالاتصال المباشر بمن يملكون الامر والجواب.
  • هذا صحيح.
  • لماذا لم تفعل ذلك في عهده؟ سأله أوزوريس.
  • لأن الامور زادت عن حدودها، إضافة إلى أن هذا الرجل لم يحبنا، وكنت متأكدا انه لن يسمعنا.
  • هو تلميذ مدارس الاحد لا تنسى، وله صداقات عميقة مع كهنة.
  • الأنبا شنودة لا مرجعية له وهو مرجعية نفسه حتى بالنسبة للكنيسة الارثوذكسية التي لها مرجعية الاباء، ولا غرابة في أن يقول أن السادات أوزوريس لن يسمعه. قال الأنبا مكسيموس من مقاعد الشهود.
  • وما دليل إتهامك له كنسيا وسياسيا؟ سأل أوزوريس وطلب من ماكس ميشيل أن يتقدم للمنصة.
  • تصرفاته التسلطية ومنها حرمان أساقفة ورهبان وأساتذة لاهوت وعلى رأسهم الدكتور جورج بابوي من غير محاكمة. ولا تنسى خلافه مع البار متى المسكين.
  • وماذا عن شكوى الأقباط المستمرة من التمثيل الشكلي لهم في المناصب العليا للدولة والتمييز ضدهم؟ سأل أوزوريس.
  • لو جعل الأقباط الدولة تشعر أن لهم رئيس واحد، وليس رئيسين: مدني وديني، سيجري التعاطي مع مشاكلهم بشكل مختلف. أما إذا أرادوا تشكيل كتلة دينية تطالب بحقوق منفصلة فالنتيجة هي ما نراه.
  • هل تريد القول إن الأنبا شنودة صنع دولة داخل دولة مستغلا الكتلة القبطية التي يتزعمها؟ سأل أوزوريس.
  • للحق أن النظام الطائفي البغيض متواجد في مصر منذ الفتح الاسلامي، لكن ما حدث ان شنودة استفاد منه، ولم يحاول حل المشكلة.
  • وما الحل لو كنت انت مكانه؟
  • الدولة ترى أن الأقباط تحولوا إلي كيان منغلق على ذاته داخل نسق الدولة، لكنهم يأتون ويطالبون بحقوق. فكيف تتصرف تجاههم؟ هذه الحالة التي بها توجس جعلتنا نعيش في مناورات لا تنتهي. أما إذا أزلنا الحواجز وقمنا ببناء الثقة فستُبنى العلاقة على أسس سليمة وسينال الأقباط حقوقهم بسلاسة.
  • إذا تناسينا الخلافات الشخصية بينك وبين السادات أوزوريس، وإتهامه لك سنة 1980 بطموح بناء دولة مسيحية جنوبي مصر، رغم عدم معقولية ذلك لأنكم لا تملكون مقومات بناء دولة، ماذا يقول ضميرك عنه هنا؟ سأل أوزوريس الأنبا شنودة.
  • لا استطيع تجاوز كتابي المقدس. قال المسيح سيدنا ومعلمُنا: "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون".
  • بمناسبة الحديث عن السلام. ماذا بشأن منعك مسيحيي مصر من الحج للقدس بعد معاهدة السلام؟ سأل أوزوريس.
  • نحن نرفض إستخدامنا كورقة تطبيع! قال الأنبا شنوده.
  • هل كان مسيحيو مصر يحجون للقدس قبل معاهدة السلام؟ سأل أوزوريس.
  • نذور شخصية. حالات نادرة غير خاضعة لمراقبة الكنيسة الارثوذكسية. قال ألنبا شنوده.
  • هذه مزايدة غير مقبولة هنا. عندكم لقب "المُقَدِس" يقال من الجميع لمن حج إلى القدس. هل كلهم كانوا حالات نادرة؟ سأل السادات اوزوريس.
  • مداخلة مقبولة. لكن هل حاولت يا أنور إستخدام مسيحيي مصر كورقة تطبيع؟ سأل أوزرويس.
  • ابدا. بالعكس. رأيت انهم الأقدر مبادرة اولا على زيارة القدس. هم الأقدر نفسانيا من المسلمين على كسر حائط الخوف والريبة بيننا كمصريين وبين اليهود، والحج إلى القدس وسيلة يستحيل أن يزايد أو يعترض مسلم عليها. وجود السلام يحتاج إلى من يحتفي به ويؤازره. انا مهدت واخترت بطرس غالي ليكون في الواجهة، لأنني رأيته أقدر نفسانيا على ذلك من أي من أي وزير مسلم، وكان المُفترض ان يكون المسيحيون بعده، حتى قبل رجال الاعمال المسلمين الذين لم يتهمهم احد باستخدامهم كورقة تطبيع! لماذا إستُخدم التطبيع إقتصاديا ورُفض إنسانيا من أجل التقارب بين الشعبيّن المصري واليهودي! قال السادات أوزوريس.
  • ومن الذي كان سيكفل عدم إتهامهم سياسيا، إذا تجاوزنا الحافز الديني؟ سأل أوزوريس.
  • انا بصفتي الرئيس! لم يعطوني هذه الورقة لأدافع أو ابرر. لم يحاولوا فتح قنوات إتصال ولو خلفية معي. عارضوا مع المعارضة، وجاءتني تقاريرتقول انهم يريدون دولة في صعيد مصر، لها علم يشبه اعلام دويلات مدن أوروبا قبل ظهور الوحدات السياسية الكبرى. ماذا تتوقع ان تكون ردة فعلي؟
  • ايها الكاتب تحوت. اريد رأياً محايدا في هذه مسألة التطبيع هذه. فليتفضل نظير روفائيل وماكس ميشيل إلى مقعديهما. قال أوزوريس
  • الدكتور محمد عفيفي. أيها المبجل. قال تحوت.
  • محمد عفيفي؟!
  • نعم! طلبتَ رأياً محايداً أليس كذلك؟!
  • محمد عفيفي. قال أوزوريس وهو يشير إليه بالحضور.

تقدم الدكتور محمد عفيفي (الباحث الاكاديمي وليس الكاتب الساخر المصري المشهور) إلى منصة القضاة وقال:

  • نشأ الوجود القبطي في القدس من الزيارة للأماكن المقدسة في المدينة، منذ اكتشاف الأمبراطورة هيلانة للصليب المجيد عام 325م وتأسيسها لكنيسة القيامة، ودليلنا التاريخي هو إشتراك البطريرك المسيحي المصري أثناسيوس في تدشين هذه الكنيسة مع بطريركي انطاكية والقسطنطينية. كما استمر الوجود المسيحي المصري في القدس مع الفتح العربي له، فقد نص كتاب الأمان للقدس المعروف "بالعهدة العمرية" على ذكر الوجود القبطي في القدس ضمن عهد الأمان لكافة الطوائف المسيحية في المدينة المقدسة.
  • هل استمر بناء الكنائس والأديرة المسيحية المصرية في القدس بعد ذلك؟ سأل أوزوريس.
  • تتحدد الممتلكات الدينية للأقباط في القدس في الوضع الحالي حسب الحصر التالي: دير السلطان وبه كنيستا الملاك والأربعة حيوانات. دير مار أنطونيوس شمال شرقي كنيسة القيامة. دير مارجرجس في حارة الموارنة. كنيسة السيدة العذراء بجبل الزيتون. هيكل على جبل الزيتون. كنيسة باسم مار يوحنا تقع خارج كنيسة القيامة. كنيسة صغيرة باسم الملاك ميخائيل ملاصقة للقبر المقدس من الغرب.
  • هل مشكلة عدم زيارة مسيحيي مصر للقدس سببها مسألة التطبيع مع إسرائيل؟
  • أهم مشكلة ساخنة منذ عقود بالنسبة للوجود القبطي في القدس هي مشكلة دير السلطان والنزاع القبطي/ الحبشي حوله، وهذا الدير هو الوحيد من بين الأديرة القبطية الذي يحمل أسماً غير قبطي. وهناك مشكلة تاريخية في نسبة هذا الدير إلى أي من السلاطين المسلمين، إذ يرجعه البعض إلى عصر صلاح الدين الأيوبي، الذي أعطاه مكافأة لبعض موظفيه من الأقباط، ويرى البعض الآخر أن سر هذه التسمية تعود إلى استضافة الدير لموظفي السلاطين الذين يعودون إلى القدس، بل ويرجع البعض تسميته دير السلطان إلى أحد السلاطين العثمانيين، وإن كان هذا الرأي هو أضعف الآراء من حيث الدقة التاريخية.
  • ما يعني أن المشكلة موجودة قبل التطبيع؟
  • كانت الكنيسة الحبشية منذ نشأتها تابعة للكنيسة القبطية. فالبابا القبطي هو "بابا الأسكندرية والمدن الغربية الخمس وأفريقيا". ومن هنا لم يكن غريباً استضافة الكنيسة القبطية للأحباش في دير السلطان، لكن الأحباش استندوا إلى نظرية الوضع الراهن المعمول بها في القدس، وأصرّوا على تنازل الكنيسة القبطية لهم عن الدير. واختلطت مشكلة دير السلطان بمشكلة تاريخية أخرى هي سعي الأحباش الدائم من التخلص من تبعيتهم للكنيسة القبطية، وتصاعد النعرة الحبشية لا سيما مع نمو المد الأوروبي في الحبشة. من هنا دخلت مسألة دير السلطان إلى منعطف خطير حيث ارتبطت بها مسألة الهوية الحبشية من ناحية، ومسألة الحفاظ على الطابع القبطي للكنيسة القبطية، كنيسة الشهداء. من هنا فشلت كل المحاولات التي دارت في النصف الأول من القرن العشرين للتوفيق بين الأقباط والأحباش وهي محاولات تدخل فيها إمبراطور الحبشة السابق هيلاسلاسي بنفسه، وبعض كبار الأقباط من خلال اقتراح اقتسام الأقباط والأحباش للدير.
  • وماذا تم بعد الاحتلال الإسرائيلي للقدس؟
  • تعقدت مشكلة دير السلطان تحت الاحتلال الإسرائيلي للقدس. إذ خطف الرهبان الأحباش مفتاح الدير من الأقباط، وثارت مشكلة كبرى، وتدخل الاحتلال الإسرائيلي إلى جانب الأحباش، ما أدى بالمطران القبطي باسيليوس إلى رفع قضية أمام المحكمة العليا في إسرائيل التي حكمت بأحقية الأقباط للدير. لكن سلطات الاحتلال رفضت تنفيذ الأمر متعللة ببعض الأسباب السياسية حول أهمية العلاقات الأثيوبية/الإسرائيلية. ودفع هذا الأمر الكنيسة القبطية إلى إصدارها لقرارها الشهير بمنع الحج إلى القدس والحرمان الديني لأي قبطي يخالف هذا القرار، وقطعه من الكنيسة القبطية، حتى يعود دير السلطان للأقباط، وما تزال مشكلة دير السلطان من المشاكل المعلقة بين الإدارة الإسرائيلية والمصرية.

جاد الحق علي جاد الحق. نادى حورس.

  • أفتيتُ بتحريم الخروج على الحاكم، بناء على آيات القرآن الكريم نفسها ومنها "وأطيعوا الله والرسول وأولي الامر منكم"، وليس نفاقاً لأنور السادات، الذي كان يُفاوض أعداءه ويُزايد الاشقاءعليه في الوقت نفسه، ويحتاج من ثمة إلى مساندة الامة له لا المزايدة عليه.

صك اعداؤه شعار فتاوى السلطان، لكن جاء باحث اخيرا وقام بدراسة كل الفتاوى التي صدرت عن دار الإفتاء المصرية، وتقدر بحوالى 100 ألف فتوى، وانتهى إلى ان جميع فتاوى دار الإفتاء صحيحة شرعاً، بما فيها فتاويه الخاصة بعهد أنور السادات التي بلغت 1328 فتوى.

  • هل كان في فتاويك ما يؤيد حقوق غير المسلمين، مثلما تحمست وأيدت الحاكم؟ سأله أحمد عصيد.
  • سؤال مقبول. قال أوزوريس.
  • لم يُعرض عليَّ مثل هذا الامر لأفتي فيه.
  • أنت تعلم الاجابة الصحيحة لكنك تستخدم اسلوب المعاريض. قال أحمد عصيد.
  • ................
  • ما يعني انك ضميرياً تؤيد رئيسك. قال أوزوريس.
  • هذا صحيح. الطاعة واجبة للرئيس والاعتراض يجب ان تصاحبه أدلة، حتى يكون موقفه صلبا في الحرب أو المفاوضات، وحين ينتهي من مهمته نجلس ونتناقش، لنرى هل نوقع كدولة أم نرفض. لا معنى للمزايدة على رئيس يتفاوض، قبل أن يصل إلى إطار ما.
  • من اجل هذه الالتبسات وغيرها رأيتُ ضرورة فصل الدين عن السياسة في الحكم، ليظل للدين قدسيته. قال الشيخ علي عبد الرازق من مجلسه.
  • كما فعل مصطفى كمال اتاتورك. عقب سلامة موسى.
  • صحيح. فالرسالة غير المُلك. رد عليه الشيخ علي عبد الرازق.
  • مداخلتان مقبولتان. قال أوزوريس

 علي عبد الرازق. نادى حورس.

  • ذكرت منذ لحظات ان الرسالة غير المُلك. قال أوزوريس.
  • هذا صحيح. النبي محمد ما كان الا رسولا لدعوة خالصة لدين، لا تشوبها نزعة مُلك ولا دعوة لدولة، ولم يكن للنبي ملكٌ ولا حكومة، ولم يقم بتأسيس مملكة بالمعنى الذي يُفهم سياسيا من هذه الكلمة ومرادفاتها.
  • لكن البعض يعتبره زعيماً سياسياً. قال اوزوريس.
  • الرسالة ذاتها تستلزم للرسول نوعا من الزعامة في قومه، والسلطان عليهم، ولكن ذلك ليس في شيء من زعامة الملوك وسلطانهم على رعيتهم، فيجب الاّ نخلط بين زعامة الرسالة وزعامة المُلك، لأن بينهما خلافا يوشك ان يكون تباينا. إن مقام الرسالة يقتضي لصاحبه سلطانا أوسع مما يكون بين الحاكم والمحكومين.
  • وما الفارق بين الزعامتيّن حسب ما ترى؟ سأل أوزوريس.
  • ولاية الرسول على قومه ولاية روحية، منشؤها ايمان القلب، وخضوعه خضوعاً صادقاً تاماً يتبعه خضوع الجسم، وولاية الحاكم ولاية مادية تعتمد اخضاع الجسم من غير ان يكون لها بالقلوب اتصال. تلك زعامة دينية وهذه زعامة سياسية. ويا بعد ما بين السياسة والدين.
  • وكيف نشأ الخلط؟ سأله أوزوريس.
  • الاسلام وحدة دينية. من يريد ان يسمي تلك الوحدة الدينية دولة ويدعو سلطان النبي مُلكاً أو خلافة والنبي مَلكاً أو خليفة أو سلطانا، فهو في حل من أن يفعل، فإن هي إلاّ اسماء، لا ينبغي الوقوف عندها، وانما المهم هو المعنى وقد حددناه لك تحديدا.
  • هذا الاجتهاد ما هو سوى محاولة لعقد وفاق بين الماضي والحاضر. الماضي تاريخ لن يعود ولا يجوز حتى تفسيره بمصطلحات الحاضر. هل تريد أن تقول لي أن محمداً كان سلطان قبائل العرب ليس إلاّ؟ قال سيد القمني.
  • لمقام الرسالة سلطان كما قلت.
  • المسألة ليست في هذه الطروحات النظرية، فهي شأن يخص المسلمين. قال البطريرك الماروني بشارة الراعي من مجلسه.
  • وما هي المسألة حسب ما ترى؟ سأله أوزوريس هو يشير له بالتقدم نحو منصة القضاة الإلهيين، ويبتسم لعلي عبد الرازق وهو يتجه إلى مجلسه.
  • ليحكم المسلمون بما شاءوا من اساليب. المسألة إنهم ليسو وحدهم في أي دولة، والمشكلة هي البدائل المتشددة الإقصائية التي تسعى للتفرد بالأقليات والاقتصاص من الآخر، حين يصل الاسلاميون إلى الحكم. قال البطريرك حين وقف امام أوزوريس.
  • اريد مثالا للحاضرين عن ذلك الامر. قال أوزوريس.
  • حدث هذا في كل الدول التي وصلوا إلى الحكم فيها. كان عندنا في لبنان مبدأ يُسمى 6 و6 مكرر. يعني في كل إدارة تتساوى الطوائف في عدد الوظائف. ومعروف اليوم عندنا في لبنان ان الادارة تم أسلمتها بغض النظر عن الكفاءات، رغم ان الرئيس لم يزل مارونيا، فماذا سيحدث إذا وصلوا للرئاسة؟ أسلمة الناس جميعا أو إضطهادهم؟ إذا كان القرآن يقول لا إكراه في الدين، فكيف يتم الاكراه سياسيا وإداريا؟
  • لا إكراه في الدين آية نُسختها آيات الحرب والجزية عن يد وهم صاغرون، والحاصل اليوم ما نجده في مصر ولبنان؛ إقصاء الآخر. قال سيد القمني للبطريرك.

القمص سرجيوس. نادى حورس.

  • نفاني الانكليز مع الشيخ القاياتي إلى رفح بسيناء بعد ان ضاقوا ذرعا بخطاباتنا على منبر جامع بن طولون ضد الاحتلال. هذه هي روح مصر سنة 1919 امام الاحتلال ومن يحاول ان يضر بها.
  • هل حافظ السادات أوزوريس على هذه الروح؟
  • حافظ على القومية المصرية، لكنه استخدم الدين الاسلامي سياسيا، ما جعل العامة يفهمون انه يسعي لإقامة دولة دينية، ودفع رجل الدين والذين يتخذون الدين وسيلة للواجهة السياسية. هكذا بدأت المشاكل، وكانت الاحداث سريعة لدرجة ان الالتباسات صارت واقعا، وكان قدره ان يُغتال قبل ان يقود ثورة تصحيح اخرى، أهم وأخطر بكثير من الاولى!

ياسر عرفات. نادى حورس.

  • نشأت القضية الفلسطينية عن قرارين سياسيين أولهما أصدره المؤتمر الصهيوني الاول في مدينة بال في سويسرا سنة 1879 وجاء فيه: "هدف الصهيونية هو خلق وطن في فلسطين للشعب اليهودي في حماية القانون العام". قال تحوت كاتب الجلسة لعرفات.
  • وماذا عن الثاني؟ سأل أوزوريس عرفات.
  • الثاني أيها الإله هو وعد بلفور في 12/11/ 1917 الذي ألغى حقوق عرب فلسطين السياسية، رغم أنهم كانوا يشكلون 94% من السكان، وأعلن إلتزام بريطانيا تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين. قال عرفات.
  • تقدم أمين الحسيني بطلب إلى الجامعة العربية في تشرين الاول/أكتوبر سنة 1947 في عاليه بلبنان، والثاني في كانون الاول/ديسمبر من السنة نفسها في القاهرة، بتشكيل حكومة ظل فلسطينية، فتجاهلت الجامعة العربية طلبيه هذين. قال تحوت.
  • هذا صحيح. قال عرفات.
  • وفي شباط/فبراير 1948، رفضت الجامعة العربية طلبه رسميا بتشكيل هذه الحكومة، وساندت بريطانيا ذلك بمساعدة حلفائها العرب المسلمين أعضاء الجامعة. قال تحوت.
  • هذا صحيح. قال عرفات.
  • في تقرير الكونت فولك برنادوت الذي رفعه قبل يوم واحد من إغتياله في 17/9/1948 ذكر أنه وجد في المناطق اليهودية إدارة حكومية تسيّر الاعمال، ولم يجد أي شيء من هذا القبيل في المناطق العربية. قال تحوت.
  • صحيح. قال عرفات.
  • بعد ذلك وُقعت إتفاقية الهدنة بين مصر وإسرائيل في 24/2/1949، وبين الاردن وإسرائيل في 3/4/1948، وبين سورية وإسرائيل في 20/7/1948، وبين لبنان وإسرائيل في 23/3/1949، ولم يكن الفلسطينيون طرفا في أي من مفاوضات الهدنة أو إتفاقياتها، رغم انها ألزمتهم بموافقة الدول العربية بمنع تخطي خطوط الهدنة سلما أو حربا، كما إلتزم العرب التنازل عن 78% من اراضي فلسطين، التي تُسمى اليوم حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967. قال تحوت.
  • هذه وقائع صحيحة تماما. قال عرفات.
  • شمل إسم "الثورة الفلسطينية" منذ البداية وعقب النكبة كل المنظمات والاحزاب والجماعات التي أعلنت تأسيسها بهدف تحرير فلسطين. قال الجبرتي.
  • هل هذا صحيح؟ سأل أوزوريس ياسر عرفات، الذي وافقه على صحة مداخلة المؤرخ.
  • لكن هؤلاء لم يتفقوا بصورة واضحة على وسيلة تحقيق هذا الهدف! فتحوا مكاتب وتلقوا مساعدات مالية، في دول عربية تهلل شعوبها لنيتهم المُعلنة تحرير فلسطين من النهر إلى البحر! قال الجبرتي.
  • وهذا صحيح ايضا. قال عرفات.
  • ثم وضع بعضكم نفسه في مأزق العمل من دول الجوار التي ساندتكم فيها معنويا الشعوب العربية، لكن الحكومات حاربتكم، لأنكم اولا لم تحاربوا من اراضي فلسطين نفسها، كما كانت أعينكم على كراسي حكمهم ثانية. قال الجبرتي.
  • صحيح، لكن الجزء الاول مناقض لما وقعوه في رودس. طيب حنحارب منين وإزاي إذا كان عناصر المقاومة خارج فلسطين؟ سأل عرفات وهو يبتسم.
  • عمليا، أعاقت النظم العربية تحرير فلسطين بتشكيل كيان سياسي فلسطيني تمثيلي بإمرتك أنت تحت إسم "منظمة التحرير الفلسطينية"، يختلف مع الباقين قال الجبرتي.
  • هذا واقع لا يمكن إنكاره هنا أيها الإله. قال عرفات.
  • وحاربتكم اجهزة هذه النظم الأمنية بإختراق التنظيمات القائمة. قال الجبرتي.
  • صحيح تماماً. قال عرفات.
  • ولم يمنحكم أحد من دول العرب أو المسلمين جنسيته، لتتعلموا وتعملوا بشكل قانوني ولتستشفوا على اراضيهم وتتمكنوا من حرية التنقل، على الأقل.
  • صحيح مع الاسف. قال عرفات وهو يهز رأسه للجبرتي.
  • كيف من ثمة ستتحرر فلسطين؟ سأله أوزوريس.
  • .....
  • ما هي شهادتك في أنور السادات أوزوريس؟ سأله أوزوريس.
  • فتح لنا طريق سلام الشجعان. قال عرفات بينما أوزوريس يشير بيده إلى نهاية شهادته.

 ناخوم غولدمان. نادى حورس. تقدم غولدمان إلى منصة القضاة وقال:

  • هناك زاوية نادرا ما يشير العرب الساميون إليها، هي انه يجب تخطي الرمز المحدد كما ورد في دعوة موسى، وهو فلسطين، من أجل متابعة الرسالة اليهودية في مداها الكوني، وهو قدرها التاريخي، بدلا من فلكها المغلق وهو مفهوم الصهيونية السياسية.
  • لكن هذه مشكلتكم أنتم، وليست مشكلة العرب الساميين كما تقول. قال أوزوريس.
  • صحيح. وهذا مسعانا، لكن الصهيونية والدعوات العروبية طمرت المشكلة الاساسية عندنا وعندهم.
  • بعض الحاضرين لا يفهمون ذلك. قال أوزوريس.
  • أوروبا سبب قيام إسرائيل بمفهومها النصّي الضيق بما إرتكبت من مجازر في حق اليهود، واميركا والمجتمع الدولي سبب إستمراريتها، لأن كل منهم له مصالحه الشخصية ولا يبالي بنا أو بمصلحة العرب. من جهتنا يجب ان يصبح الدين اليهودي حضارة شمولية، لا أن يظل قومية مغلقة.
  • وأين ستقع هذه الحضارة الشمولية؟ سأله أوزوريس.
  • في الشرق الاوسط منبع السامية والاديان الإبراهيمية، بدلا من الغرب. لا تنسوا أيها السادة، أن اساسيات الحضارة الغربية لمفكرين يهود هم ماركس وفرويد وأينستاين. لماذا لا توضع هذه الاساسيات في مكانها الطبيعي، بدلا من العداوات.
  • ما هي المشكلة في الجانب العربي من ثمة؟ سأل أوزروريس.
  • حصروا المشكلة في ما صنعته الصهيونية السياسية، ووضعوا اليهود والحوار معهم في بند المحرمات. ويبدو أن مصلحة الاطراف الحاكمة بقاء الامور على ما هي عليه، ليظلوا في السلطة، لذلك وُقعت إتفاقيات سلام على ورق ولم يحدث أي تفاهم حضاري، أو حتى معاهدات إقتصادية.
  • ماذا كان دور السادات أوزوريس كما تراه؟
  • أنهت حرب يوم كيبور ثقة الصهيونية السياسية المطلقة في تفوقها العسكري على جيرانها.
  • وفي مبادرة السلام؟
  • فتح هذا الرجل ثغرة في منتهى الحيوية لفكرة الحضارة اليهودية الشاملة في ارضها الصحيحة. لم يقل ذلك صراحة، إنما عبّر عنه بفكرة تنافس الحضارات على أرض الشرق الاوسط لرفاه الشعوب. مهّد بخطوته الجبارة تلك الجهود إلى آفاق أرحب، لكنها مع الاسف لم تلق التشجيع والمؤازرة المطلوبيّن.
  • لماذا؟
  • لأن روح مبادرته العظيمة كانت مفترضة ان تكون في تعامل العرب الساميين معنا! الفلسطينيون سكان فلسطين على الأقل!
  • ماذا فهمت من روح مبادرته؟ سأل أوزوريس.
  • الانفتاح على الاخر رغم وطأة التاريخ. بداية جديدة لجميع الاطراف بدون حساسيات. ما عناه هذا الرجل لم يكن فقط توقيع معاهدات سلام وترسيم حدود.
  • وماذا حدث؟ سأله أوزوريس.
  • ما فعله لم يقرأه حتى اليهود في إطاره الصحيح وهو أن التجربة الصهيونية المعاندة في إقامة إسرائيل القومية المقفلة، كانت الخطأ الأهم والأعمق في تاريخ اليهودية ما بعد موسى.
  • وما هو الحل؟ سأل أوزوريس.
  • الحل الأمثل رغم صعوبته البالغة هو التضييق على القوميات المزورة التي خلقها الغرب للمواجهة في ما بيننا، ولم نخلقها نحن، وإحياء القوميات الحقيقية. لم يظهر في القوميات الحقيقية صاحبة الارض مع الأسف رجل بحجم أنور السادات أوزوريس.

فليتقدم إلى المنصة أمين الحسيني. رفع حورس صوته.

  • كما جاء في السياق، وبالنظر إلى تاريخ قيام دولة إسرائيل، نجد أن الوقائع على الارض مع دخول الحكومات العربية الحرب في فلسطين ضمن نطاق جامعة الدول العربية بتاريخ 15/5/1948 كان لإنتزاع ما تبقى من شرائح ارض فلسطين عقب الغزو الصهيوني في شهر نيسان/أبريل، وليس لحماية الفلسطينيين أو المحافظة على ارضهم، كما قالت الحكومات. قال كاتب الجلسة.
  • هكذا بدا الامر بعد سنوات الاوهام. رّد الحسيني.
  • وكما ورد في التاريخ، جمّدت الجيوش العربية بتعليمات من حكوماتها انشطة الفلسطينيين العسكرية والسياسية كافة، ما جعلكم عُزلا بدون سلاح، في حالة فوضى وذعر، وعندما لحقت الهزيمة بهذه الجيوش العربية بدأت بالفرار، فأكملت إسرائيل سيطرتها على الاراضي الفلسطينية وشرائح من اراض عربية مجاورة بنهاية العام نفسه، وقد توقف القتال في 7/1/1949. قال كاتب الجلسة.
  • هذا ما حدث تماما. قال الحسيني.
  • الصورة الديبلوماسية كانت نتيجة وقائع الحرب، وهو الامر الواقع الذي تشبث به بن غوريون، وإمتنع عن الانسحاب من الاراضي المستولى عليها، وتمسك بعدم عودة اللاجئين. قال الجبرتي.
  • وهذا الامر الواقع يضع عدة اسئلة تشكك في شعارات الدول العربية ومصداقياتها، ومنها: هل ساندت الانظمة العربية بعشوائياتها الهدف الاستعماري الصهيوني عندما رفضت جامعة الدول العربية مرتين تشكيل حكومة فلسطينية، ولم تصوّت لصالح إعلان دولة فلسطينية في الجزء المخصص لهم حسب قرار تقسيم 1947؟ هل كانت الانظمة العربية تعمل على تقنين حالة التقسيم هذه عندما إمتنعت عن تقديم السلاح للفلسطينيين وصادرت حتى سلاحهم الشخصي؟ هل حالت الانظمة العربية بين الفلسطينيين وحق تقرير مصيرهم بعد قيام دولة إسرائيل، من خلال إتفاقية رودس سنة 1949؟ تساءل الحسيني.
  • رغم كل شعارات تحرير فلسطين التي اعلنتها الانقلابات العسكرية التي أطاحت بالملكيات ومعظم أنظمة 1948، ظلت حركة المراوغة العربية-الفلسطينية دائرة، إلى ان أخطأ الفلسطينيون مرة اخرى سنة 1964 بقبول منظمة التحرير الفلسطينية كورقة تتلاعب بها الانظمة العربية، وإنصاعوا للإعتراف في مؤتمر قمة الرباط عام 1974 بالمنظمة ممثلا وحيدا شرعيا للشعب الفلسطيني، ليلقي عليهم عبء تنازلات قُدمت لإسرائيل لاحقا. قال كاتب الجلسة.
  • صحيح مع الاسف. قال الحسيني.
  • هل كنت مدركا للقوة التي كانت تواجهكم سنة 1948؟ سأل أوزوريس أمين الحسيني.
  • نعم.
  • وكيف قررت مواجهة قوة لا قبل لك بها، في بلد متخلف عميق الفقر قليل السكان نسبة إلى مساحته؟ سأله أوزوريس.
  • بالمقاومة؟ قال الحسيني.
  • التي إنتهت بالمجازر التي حدثت وتشتيت شعبك! كما قاومها الرؤساء العرب الذين خذلوكم، بالسعي شفاهة إلى الوقوف ضد مشروع القومية اليهودية، وإجهاض قرار الامم المتحدة بتقسيم فلسطين، وهو حل الدولتين الذي يطالبون به الان. قال كميل شمعون من مجلسه.
  • كان الامر سوء تقدير. رد عليه الحسيني.
  • هل أفادك هتلر بشيء؟ سأله الجبرتي؟
  • ...............
  • هل هذه شهادة ضميرك هنا؟ سأل أوزوريس شمعون.
  • في كل مكان ذهبوا إليه أعلنوا المقاومة التي كانت كارثة على الجميع بمن فيهم الفلسطينيون!
  • مداخلة مقبولة. لماذا لم تعلن حكومتك على اراضيك حسب قرار التقسيم في تشرين الثاني/نوفمبر 1948، بدلا من توسل لا معنى له لجامعة الدول العربية؟ قال ياسر عرفات من بعدك انه سيعلن دولة فلسطينية ولو على شبر واحد، وآنذاك كان لديكم أكثر من شبر! سأل أوزوريس.
  • اتكلنا على الدول العربية.
  • ما يعني انك وضعت شعبك أمام وصايتيّن أدتا إلى تمزيق أوصاله؛ الصهيونية السياسية في فلسطين ورؤساء وملوك عرب لا قرار سياديا لهم فيها! قال أوزوريس.
  • ...
  • ما هي ستراتيجية الاجيال الفلسطينية حيال إسرائيل بشكل عام؟ سأل كميل شمعون.
  • رفض هذا الكيان.
  • لكن اليهود لهم الحق في العيش في هذه المنطقة ايضا. قال بيغن من مجلسه.
  • اليهودية كديانة. لكن ليس لليهود حق اغتصاب وسرقة بلد. رد الحسيني.
  • مداخلة ورد مقبولان. لكن انتم دائما في خانة الضحايا حسب ما يبدو لي. قال أوزوريس.
  • يمكن أن يُقال ذلك بضمير مستريح. قال الحسيني.
  • ما شهادة ضميرك في أنور السادات؟
  • لو كان هناك رئيس سنة 1948 في مثل واقعيته، لاخترنا حل التقسيم، بدلا من كل هذه الدماء التي ذهبت سدى. على الأقل كان القسم الخاص بنا أكبر، والقدس الشرقية بمقدساتها لنا!
  • أجهضت مع الرؤساء والملوك العرب فكرة قيام دولة فلسطينية، وإخترت لشعبك ان يكون ضحية. قال أوزرويس وهو يرفع يده اليسرى إشارة لنهاية شهادة الحسيني.

 محمد جلال عناية. نادى حورس.

 تقدم الباحث الفلسطيني إلى منصة القضاة الإلهيين فسأله أوزوريس: هل من شهادة ضميرية تريد ان تقولها في ملف فلسطين؟

  • لم تتوفر للفلسطينيين الفرصة لاقامة دولة في تلك المناطق، لأسباب تتعلق بالاجندات المختلفة للدول العربية التي دخلت قواتها الى فلسطين، والشيء الوحيد الذي اجمعت عليه الدول العربية كالفة وفي صورة انفرادية لكل منها، انها ازاحت الفلسطينيين جانبا حتى تتصرف وفق مصالحها، والظروف المحيطة بها، لتدبرعلاقتها مع الدولة اليهودية الجديدة، والبحث عن مخرج للانسحاب من مواجهتها، بطريقة تحفظ ماء الوجه، فعقدت اتفاقيات هدنة دائمة معها في رودس 1948. أمّا حفظ ماء الوجه فجاء من تسمية هدنة بدلا من صلح وسلام، وإن من يراجع نصوص هذه الاتفاقيات يجد انها اتفاقيات سلام في واقع الامر، فالدول العربية إلتزمت بخطوط الهدنة على انها حدود دولية، ولم تفكر او تجرؤ على استعادة شبر واحد من الارض، وظل إلتزام الدول العربية قائما في المحافظة على هذه الحدود حتى 5/6/1967 عندما اخترقت إسرائيل هذه الحدود واحتلت شبه جزيرة سيناء، وهضبة الجولان السورية، والضفة الغربية وقطاع غزة، وإن أقصى اماني العرب بعد هزيمة 1967 هو ان تتراجع إسرائيل الى خطوط هدنة رودس التي شاع اسمها الجديد "خطوط الرابع من حزيران1967".
  • بالمناسبة، كلمة فلسطين جغرافيا، كما يبدو لي، غير واضحة لبعض الناس. قال أوزوريس.
  • كانت فلسطين 1914 تتكون من ثلاثة سناجق، هي: عكا، نابلس، والقدس، أما فلسطين التي نتحدث عنها فهي الرقعة التي خضعت للانتداب البريطاني، والتي كانت مستهدفة بوعد بلفور 1917 وصك الانتداب 1922، لتصبح وطنا قوميا لليهود، والتي ينتمي إليها الشعب الفلسطيني الذي اغتصبت حقوقه السياسية في هذه الارض.
  • وماذا بعد عام 1948؟ سأل أوزوريس.
  • بعد عام 1948 لم تعد فلسطين كيانا سياسيا على خريطة العالم السياسية، ولذلك اصبحت الهوية الفلسطينية هوية تاريخية للعرب المقيمين على ارض فلسطين، أو من رحل منهم الى الاقطار العربية والاجنبية، وبطاقة اثبات الشخصية التي يحملها كل هؤلاء إنما هي صادرة عن سلطات اخرى. حتى ان وثائق السفرالتي صدرت عن بعض الاقطار العربية لتسهيل سفر الفلسطينيين كانت مُعرّفَة على غلافها بأنها "وثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين"، أي أن الميزة الوحيدة للفلسطيني التي تميزه عن غيره، هي انتماؤه هو وأصوله وفروعه الى فلسطين، التي كانت قائمة خلال الاعوام الثلاثين ما بين 1917-1947، وأصبحت كلمة فلسطيني عبارة عن كنية مفرغة من أي مضمون سياسي، وفي نفس الوقت اتُخذت وصمة للتمييز ضده في المعاملة.

لم يكن انسحاب الجيوش العربية عام 1948، والذي تم في بضعه اسابيع، هو أخطر ما نزل بالفلسطينيين، بل الانسحاب السياسي الذي استمرت الانظمة العربية في كافة اقطارها، وبمختلف مسمياتها، في ممارسته مداورة ومباشرة على امتداد عشرات السنين، هو الذي أوصل الفلسطينيين إلى الحال الذي هم عليه الان بتجريدهم حتى من الامل. وفي ظل نظم الحكم العربية بمختلف مسمياتها، اتضح لكل منها أن الصدام العسكري مع اسرائيل يخلخل نظام الحكم الذي يحرص اصحابه على بقائه قائماً، أكثر من حرصهم على أي قضية قومية ولو كانت بأهمية القضية الفلسطينية، فغاب احتمال مواجهة إسرائيل عسكرياً.

  • وماذا فعل الفلسطينيون أنفسهم لبلدهم؟ سأل أوزوريس.
  • المؤسف، ان القوى السياسية الفاعلة في المجتمع الفلسطيني، ضمن مختلف مناطق تجمعه، هي التي اخذت تعمل على تمزيق الهوية الوطنية التاريخية التي تجمع بين الفلسطينيين في كافة اماكن تواجدهم، وتذويب هذه الهوية، لصالح هويات بديلة أفرزها العجز واليأس عن المواجهة الشاملة لإسرائيل في حضور الخلل الهائل في توازن القوى معها، وبسبب هبوط الاحوال العربية والانصراف عن قضايا المصير والمستقبل، والاستغراق في مسائل الحياة اليومية، وترك الاخرين يحددوا لهم مصائرهم.

هكذا تحول الولاء الوطني الفلسطيني التاريخي، الى ولاء لدويلات الفصائل والقبائل والازقة والحارات التي ترضع من حليب مغشوش غير حليب أمها. دويلات طفيلية، أنزلت العلم الفلسطيني، ورفعت راياتها التي تتوزع على ألوان قوس قزح.. لإسقاط ما تبقى من مقومات الهوية الفلسطينية.

  • اعتمد الفلسطينيون على العرب لإسترجاع أرضهم على أساس ديني، وليس على أساس سياسي. وحسب كل ما قيل هنا فشلت السياسات العربية كافة نتيجة فشل حروبها ومفاوضاتها وراء الكواليس أو امامها، ولو اقتنع الجميع بأن القرآن يؤيد أحقية اليهود في "الارض المقدسة" ستنحل القضية برمتها. رجع الاسرائيليون إلى ديارهم بعد سنوات التشرد عنوة، واستخدم المسلمون العنوة نفسها لاحتلال هذه الارض، فلماذا التباكي الكاذب؟ قال مالك مسلماني من مجلسه.
  • ماذا يقول هذا الجاهل؟ تساءل معمر القذافي بصوت عال وهو يقف فاتحاً يديه بطريقة مسرحية. وسادت الدمدمة القاعة المقدسة.
  • الرجاء من الجميع السكوت. فليتقدم مالك مسلماني إلى منصة القضاء. قال أوزوريس.
  • هناك مبدأ واضح في القرآن هو أن الارض ملك الله ويعطيها لمن يشاء، وجاء في سورة المائدة "وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين. ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين. قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإنا داخلون. قال رجلان من الذين يخافون نعم الله عليهم ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين".

 هذه الآية تعني أن الله أورث هذه الارض لليهود رغم وجود الكنعانيين أولا ثم الفلستينيين، الفلسطينيون لاحقا، عليها منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد.قال مالك مسلماني.

  • لكن الله عاقبهم لأنهم تخاذلوا في تنفيذ وعده وتجاهلهم لفريضة الجهاد. قال محمد مهدي عاكف.
  • عاقبهم بالتيه أربعين سنة في صحراء سيناء ولم يعاقبهم بالحرمان من الارض. ثم أن الجهاد فكرة قرآنية لم ترد في العهد القديم، وما قلته مجرد تفاسير لا تمت بصلة للنص القرآني. قال الأنبا شنودة.
  • ماذا تعني؟ سأله مهدي عاكف.
  • هل تقبل التفاسير التي تقول أن الارض المقدسة هي الممتدة من العريش حتى الفرات، حسب إجماع أهل التأويل والتفسير والسيّر والعلماء بالاخبار المسلمين على ذلك؟ سأله الأنبا شنودة.
  • هذا صحيح ولا توجد آية نسخت هذا الميراث، ولم ترد آية ذكرت الفلسطينيين رغم وجودهم في الارض قبل نزول القرآن من اللوح المحفوظ المُفترض أن تُذكر فيه فلسطين، بل العكس حدث تماما وهو تأييد الله لليهود ضد القوم الجبارين أياً كانوا. قال مالك مسلماني.
  • هل هناك من يُفحم هذا الجاهل؟ تساءل القذافي بصوت مسموع.
  • الشاهد التالي. قال أوزوريس بعد لحظات من الصمت لم يتكلم أحد فيها.
  • حافظ الاسد. نادى حورس.

 سار حافظ الاسد من خلف كراسي جهة اليسار نحو الحكام الكبار، وخاطب أوزوريس وهو يشير بابهامه إلى السادات: لم يترك هذا الرجل شيء له قيمة بعده، لأنه نسف برعونته جميع جهود السلام المحترمة، ووقع إتفاقا مهينا مع العدو. كل من يتعامل مع عدو يعتبر خائنا يجب إعدامه.

  • ترك لك ولورثتك ورقة لبنان والفلسطينيين فيه وعلى أرضك، وورقة إيران وما ينتج عنها حتى اليوم. قال موسى صبري من مجلسه.
  • هذه مزايدة غير صحيحة. قال الاسد.
  • الوقائع على الارض تقول ذلك. رد موسى صبري.
  • إنني لم أفهم أمر تعجله. قال أوزوريس وهو يرفع يده لموسى صبري طالبا منه الصمت اثناء شهادة الاسد.
  • ثلاثون عاما مضت على حالة الحرب مع إسرائيل حتى زيارته لإسرائيل، لماذا لم نقاوم ثلاثين عاما اخرى حتى نصل لإتفاق مشرف؟ لا يُضحى هكذا بقضايا الشعوب والامم.
  • هل تعتقد ان وقائع أكثر من ستين سنة على الارض تترك أي إتفاق مشرف بين عدو متفوق خلق أمرا واقعا على الارض، وشعوب تزرح تحت وطأة مشاكلها وهذا الواقع؟ هل الشعوب على استعداد لتنتظر وتموت إلى ما لا نهاية؟ سأله أوزوريس.
  • هذا قدرها.. الانتظار والشهادة.
  • الانتظار والشهادة؟ ما شهادة ضميرك في أنور السادات أوزوريس؟
  • خائن عميل إستحق إعدامه عسكريا!
  • بل هو رجل وطني إستشهد من أجل مصر. قال موسى صبري.
  • طظ في مصر وأبو مصر واللي في مصر. انا ما يهمنيش يحكم مصر واحد ماليزي. قال محمد مهدي عاكف.
  • هذه زلة لسان أو ماذا؟ سأله أوزوريس.
  • هذه عقيدة إخوانية. أجاب عاكف.
  • هذه هرطقة وطنية وهي امتداد لهرطقات المريض نفسانيا حسن البنا. قال العقاد.

 نظر أوزوريس إلى وجوه الجالسين بعد تعقيب العقاد، ثم قال لمحمد مهدي عاكلف:

  • لقد أدليت بشهادتك، وكما يبدو لي أنت شخص غير مرغوب فيه في هذه القاعة.
  • آرييل شارون. نادى حورس بينما عاكف يتجه خارج القاعة.

تقدم شارون إلى القضاة وقال: سأحصر شهادتي في حرب يوم كيبور بصفتي عسكريا. كنا جيشاً منتصراً ولم يعرف أبناء جيلي طعم الهزيمة، لكن قوة العدو وعظمة سلاحه ونقطة البداية والحالة المعنوية لدينا.. كل ذلك جعل مهمة ألويتنا وحدها بالتغلب على المصريين مهمة غير ممكنة.

  • أفهم كونكم جيشا منتصرا، لكن ما عظمة سلاح من كانوا متخلفين عنكم بعشرين خطوة كما قال السادات أوزوريس نفسه؟ سأل أوزروريس.
  • عظمة السلاح عسكريا ليست دائما في تقنيته، بقدر ما تكون في براعة وإبتكارية إستخدامه. إستخدم المصريون خراطيم مياه ري لهدم أعظم ساتر ترابي عسكري في العالم، وتجاهلوا نصائح الروس بحاجتهم إلى قنبلة ذرية لتحطيمه! كما إستخدموا قاذفات محمولة على الكتف لوقف دباباتنا، وهي مفاجأة عسكرية سنة 1973 إقتبسوها من حروب ما قبل خمسينات ذلك القرن، إضافة إلى دقة معلومات مخابراتهم في تلك الحرب، والتمويه المذهل لإخفاء ساعة الصفر، ما جعل إنتصارهم في نقطة البداية امراً يستحيل تجاوزه معنويا في الميدان، فكان همنا الحدّ من الانهيارات التي حدثت في صفوفنا، ووقف تقدمهم بهجوم الثغرة المعاكس.
  • اوجزت فأحسنت. قال كاتب الجلسة.

بطرس غالي. نادى حورس.

قال بطرس بطرس غالي: بعد مرور هذه السنوات، من المؤكد أن ما فعله أنور السادات حربا وسلما كان لصالح مصر، وهذه مسؤوليته الاولى كرئيس. سجلت يومياتي لتلك المرحلة خصوصا ايام مفاوضات كامب ديفيد، وكتبت فيها انطباعات يومية، شكّيتُ مرات فيها اننا على خطأ كبير! ولكن مع الأيام وفي النهاية قررت ان السادات عبقري سياسي سبق أيامه وعصره.

  • وماذا عن شق إلتزامه بمسألة فلسطين؟ سأل أوزوريس.
  • واقعيا، إذا نظرنا فقط إلى كمية المستوطنات التي بُنيت بعد إتفاقيتي كامب ديفيد، سندرك الخطأ الفادح الذي وقع الفلسطينيون فيه عندما زايدوا عليه ورفضوا الشق الخاص بهم. رفضوا ببساطة إستقلاليتهم في مفاوضة الاسرائيلي، وفضلّوا كونهم اسرى المزايدات العربية.
  • لكننا فاوضنا بعد ذلك. قال ياسر عرفات من مجلسه.
  • بخطأ أفدح من المزايدة على السادات، وهو عدم قراءة إتفاقية أوسلو التي وقّع المفاوضون الفلسطينيون عليها! لقد وقعوا على إتفاقية، هم غير ملمين حتى بقراءة نصها الأصلي المكتوب باللغة

الانكليزية! ناهيك عن أفخاخ التفاصيل! لقد طلبوا مني شخصيا ان أقرأها لهم، فقلت الامر مستحيل لأنني غير مستطيع قراءة الاتفاقية قبل يومين من توقيعها، فما بالكم بما بين سطورها.

مناخم بيغن. نادى حورس.

  • صحيح انني في مجالس الوزراء كنت اثقل عليه وأنعته بالكذّاب، قبل ان ألتقيه وجها لوجه، لكنه صعقنا بمفاجأة عسكرية وربح الرأي العام الدولي ضدنا بمبادرة سلام إنسانية. خاطب الشعب اليهودي في إسرائيل والشتات من الكنيست، فضغط الجانبان والمجتمع الدولي واللوبي الاسرائيلي في اميركا علينا لنوقع إتفاق. هو أول وآخر سياسي يفعل ذلك مع إسرائيل.

جيمي كاتر. نادى حورس.

  • دونتُ سابقة في تاريخ الرئاسة الاميركية هي المناداة بوطن قومي للفلسطينين مقابل وطن اليهود، ولم أزل حتى اليوم انادي بالعدل في الحقوق الفلسطينية، لكن أين هم الفلسطينيون أنفسهم؟

قال السادات لي في كامب ديفيد أن 99.99% من اوراق اللعبة بيدنا، لكن الواقع يثبت اننا لا نستطيع عمل شيء بدون إرادة الاطراف الاخرى. هكذا فعل هو بسياسات الصدمات الكهربائية، لكنها في الواقع كانت رمالا متحركة للجميع، للهروب من نمطية المواقف المحبطة.

  • كيف؟ سأل أوزوريس.
  • حارب سنة 1973 ضد إرادة القوي العظمى، وبادر بالذهاب إلى القدس، وكانت الدول الكبرى آخر من يتوقع ذلك اللقاء المباشر! جعل مصر قوة عظمى في قراراتها، وعاش اربع سنوات نجم الاعلام الاميركي. انني احترم جهود هذا الرجل، أيقونة السلام في الشرق الاوسط، وآسف ان احدا لم يكمل حلمه في هذه الاراضي بدلا من توقيع بروتوكولات على الورق. قال كارتر.

محمد رضا بهلوي. نادى حورس.

 قال شاه إيران: كنت مؤمنا بصدقية ومشروعية كل ما فعله اخي أنور السادات، وطلبت من الجميع بمن فيهم اليهود مساعدته على تحقيق سلام حقيقي يكون نواة دول قوية في المنطقة، بدلا من كيانات كرتونية وميليشيات وجماعات دينية كهفية عميلة متطرفة، ساعدت سياسات أميركا على قيامها، ثم إنقلبت هذه الكائنات الظلامية التي لا جذور لها على واشنطن والدنيا في نهاية المطاف.

 نيكولاي شاوشيسكو. نادى حورس.

 قال شاوشيسكو: حاولت تمهيد حوارات بين العرب واليهود. لم يعترض عبد الناصر على محاولاتي، لكنها باءت بالفشل لأنه أراد أن يبدأ من النهاية، وهي وضع خريطة نهائية لإسرائيل أمامه قبل التفاوض. كررت المحاولة عدة مرات، لكن الفتور كان سيد الموقف إلى أن تولى بيغن رئاسة الوزراء، ورأيت منه إهتماما بلقاء رؤساء دول الجوار، خصوصا الرئيس السادات، وسمعت منه إستعداداً للتنازل في حال حدوث مفاوضات. أقنعت السادات بذلك وأكدت له أن بيغن رجل منطقي يجب التفاوض معه، وهو على إستعداد للتنازل والسلام، وهو رجل قوي يلتزم بما يوقع، فكانت ترتيبات اللقاء التاريخي الذي غيّر فعلا مفرادات العمل السياسي في الشرق الاوسط، وحطم الحاجز النفسي الذي آمن السادات انه أقوى مانع امام الحوار.

 بيغن عَرض فكرة، والسادات بادر، ويستحيل بدونهما أن يحدث الانقلاب العميق في مفهوم الصراع الاسرائيلي العربي.

 هنري كيسنجر. نادى حورس.

 تقدم كيسنجر من القضاة وقال: السادات أعظم رجل دولة على الارض منذ بسمارك.

  • هذه شهادتك كسياسي. ما شهادة ضميرك؟ قال أوزوريس.
  • لم يستطع أن يؤدي أحد المسلمين بالروح نفسها التي أدى السادات بها. فعل السادات ما فعله سياسيا بروح الامل في غد أفضل، وليس فقط توقيع معاهدة سياسية، للتهرب من نمطية الوقائع.

الحاجز النفسي الذي أشار السادات إليه لم يكن عند العرب فقط، بل كان عند اليهود أيضا. حسب رأيي، عرض مناخم بيغن فكرة لقاء بالرئيس السادات على شاوشيسكو. مجرد نية طيبة ليس إلاّ.. لكن الذي نفذها ووهب الحياة لها كان السادات، الذي كسر تخيلات العالم كافة عندما طلب اللقاء الاول في الكنيست وليس جنيف أو غيرها، ورغم ذلك اعتقد بعض اليهود انه يخدعهم ويخفي اشعال حرب ضدهم في الايام ما بين إرسال الدعوة ديبلوماسيا له ويوم زيارته! وربما لو لجأ الطرفان لي، لوصل الجميع إلى حل أفضل مما حدث.

  • انا وقعتُ إتفاق سلام وحاولتُ التمهيد لغيري للسير في طريق حل واقعي. لم اعقد صفقة لكي اسلك سبيل من لا يعرف طريقه ويريد وساطة من أجل صفقة أفضل. قال السادات من مجلسه.
  • مداخلة مقبولة. قال أوزوريس.

 نهض تحوت من مجلسه وإقترب من منصة القضاء وهمس في أذن أوزوريس، الذي قال بصوت مسموع:

  • الشيخ مَن؟ مَن طَلبه للشهادة هنا؟ من دعاه لإرسال هذا التمني؟
  • احمد عبد الحليم العامري. نادى حورس، بعدما لاحظ أوزوريس يرفع يده له لإستدعاء الشاهد التالي، فتقدم إبن تيمية إلى منصة القضاة.
  • انت تعلم سبب حضورك هنا. بادر أوزوريس بالقول.
  • نعم. والرجل الذي إقتبس واجتزأ أقوالي أدنى بكثير من ان يُذكر إسمه هنا.
  • لكن ما كتبه ادى إلى إغتيال السادات أوزوريس في الدنيا.
  • على عادة معظم المسلمين، حَدَث تجاوز لبعض ما قلته إبان معارك سلطان مغول الإلخانات محمود غازان في حلب ودمشق، ورددوه في عهد السادات أوزوريس.
  • ماذا تعني بكلمة تجاوز؟
  • يحدث هذا الامر حتى عند إستخدام آيات القرآن نفسها. يتجاهل معظم المسلمين أسباب نزول الآية ويستخدمونها في مناسبات اخرى.
  • لكن الرجل الذي لم تشأ ذكر إسمه، جعل تحمسك للجهاد والحكم الشرعي اسانيد كتابه. قال أوزوريس.
  • مؤلفاتي لا تتناول الجهاد فقط. انني لست سلفياً بقدر كوني مجتهداً حاول هز الكثير من المسلمات غير الصحيحة المستقرة فى الفكر الإسلامى، كما أن الوهابية التي اتت بعدي إقتبست أيضا من بعض افكاري ومؤلفات تلميذي ابن قيم الجوزية، وقلدوها بغير إتقان.
  • فَسِر ذلك.
  • الوهابية حركة إسلامية سياسية وانا عالمٌ متفقه لم يسع لإقامة أي خلافة أو إمارة.
  • وما حكمك على من إغتيل بسبب .. لنقل بذور افكارك؟
  • انا رجل ملة لا رجل دولة.
  • من قال هذا الكلام؟ سأل عباس العقاد من مجلسه.
  • ما هي وجهة إعتراض العقاد؟ سأله أوزوريس.
  • هم عادة يتهربون بهذه الاساليب عندما يضيق الخناق عليهم سياسيا! إسألني انا.

موسى صبري. نادي حورس.

 تقدم موسى صبري إلى منصة القضاة الإلهيين وقال: لو كان الأنبا شنودة يلتزم حقا بما قال المسيح، لكان صلى على جثماني. احبوا اعداءكم وباركوا لاعنيكم، قال المسيح! انا لست عدوا ولم ألعن.

  • المقام هنا ياموسى ليس لتصفية حسابات دنيوية بل للترفع وتقديم شهادة ضمير. قال أوزوريس.
  • هذه ليست تصفية حسابات ايها الاله، بقدر ما تعبّر عن واقع الكنيسة المصرية القومية التي نبذت حتى أهم مفكريها أو تجاهلتهم. قال موسى صبري هذا وهو ينظر إلى سلامة موسى والدكتور لويس عوض.
  • ما هي شهادتك في أنور السادات؟ قال أوزوريس.
  • تشترك الدول في لعبة الامم التي تحدث عنها مايلز كوبلاند، حيث لا يوجد فائزون البتة. وكما قال زكريا محيي الدين في محاضرة له: لم يكن حرص كل لاعب على النجاح بقدر على ما هو تجنب ضياع أو خسارة أكبر، لأن الهدف المشترك لجميع اللاعبين في لعبة الامم هو رغبتهم في المحافظة عليها مستمرة بدون توقف، ذلك ان توقف هذه اللعبة لا يعني سوى شيئا واحدا الاّ وهو الحرب.
  • ما يعني ان السادات أوزوريس خرج عن قواعد هذه اللعبة؟
  • صحيح تماما. تحوّل إلى لاعب اساسي وليس مردد شعارات مثل عدم التفريط في الثوابت الوطنية والحقوق العربية، ليجد لنفسه وللفلسطينيين حلا مقبولا واقعيا بعيدا عن شعارات لا طائل من ورائها، وقواعد لعبة الكِبار في المنطقة التي تهتم بمصالحها لا راحة المواطنين. الرجل لم يكن مهتما بزعامة عربية، وكانت نيته حتى ترك حكم مصر بعد إسترداد سيناء بالكامل.
  • وماذا عن شهادة ضميرك انت؟ سأله أوزوريس.
  • المطلوب ممن هاجموا أنور السادات ان يقولوا ماذا فعلوا وماذا قدموا لبلادهم اولا، ولمسألة فلسطين ثانيا. هذه شهادة ضميري.

أنيس منصور. نادى حورس.

  • عندما كنت مع أنور السادات أوزوريس في الطيارة مع الوفد المصري عائدين من رومانيا بعد لقائه المهم جدا مع شاوشيسكو اقتربت منه وقلت له: نحن على خط مستقيم مع جبل أرارات، فسألني: ماذا تعني؟ قلت: أرارات هو الذي رست عليه السفينة التي كان يصنعها نوح على الشاطىء بعيدا عن البحر، والناس يمرون به ساخرين، لأنهم لا يعرفون ان طوفانا سوف يجيء، وان هذه هي سفينة النجاة لنوح وابنائه وبناته والطيور والحيوانات من كل زوجين إثنين، وسوف تغرق الدينا كلها إلا نوح واولاده. ونوح هو آدم الثاني الذي بدأت به الحياة على كوكب الارض.
  • وماذا قال السادات أوزوريس؟ سأله الإله؟
  • نظر إلى الجو من نافذة الطيارة ولم يرد. لكنني استطردت: انت ياسيادة الرئيس تقوم الان بدور نوح لإنقاذ الشرق الاوسط من طوفان الحرب والدمار والحقد والظلم.
  • هل كنت على علم بنيته زيارة إسرائيل؟ سأل أوزوريس.
  • لا. المسألة بالنسبة لي كانت مجرد حدس بشيء كبير قادم. لكن السادات قال لي: شاوشيسكو قال كلاما قريبا من هذا المعنى، لكنه لم يقله بهذه الطريقة الجميلة المقنعة.
  • وسوف يقفز من السفينة الخائفون والمغرورون والذين لا يرون ما ترى! الذين لا يرون أبعد من أنوفهم. إن مهمتك خطيرة وثقيلة يا ريس!
  • وماذا ستكتب يا أنيس؟ سألني هو؟
  • انت أسرع من ان يلاحقك أو يلحق بك أحد. قلت له.
  • مش معقول يا أنيس حتطلب مني أشيلك على كتفي وأروح بك إسرائيل! ردّ عليَّ.
  • وماذا كان ردك؟ سأله أوزوريس؟
  • لم أرد، لكنني قلت في ما بيني وبين نفسي: يا نهار إسود! الراجل بيقول يروح إسرائيل!! معقول الكلام ده؟! ولم اندم بعدما فعله ان أصفه بالعبقري السياسي.
  • احمد إسماعيل علي وعبد الغني الجمسي. نادى حورس هو يبتسم، فدوت القاعة بتصفيق رتيب خافت من آلهة مصر كافة، ثم تبعهم بعض الشهود وقوفا، بينما المشيران يتقدمان إلى المنصة وملامحهما تدل على إمتنان بالغ.
  • ماذا تقول عن السادات أوزوريس؟ سأل أوزوريس أحمد إسماعيل علي.

طلب أحمد اسماعيل علي من الجمسي أن يتكلم اولا بحركة لطيفة من يده فقال الجمسي:

  • كان يثق في الجيش ولم يتدخل في شؤوننا الميدانية بتاتاً، كما لم يدعنا نتدخل في شؤونه السياسية. كان صاحب ديبلوماسية تقوم على الممكنات الموجودة على الارض بتفكير إبتكاري، تماما مثل تفكيره العسكري في ميدان القتال. كان دائما المُلهم والمُبادر والمُقنع في حديثه. قال المشير عبد الغني الجمسي لأوزروريس.
  • هل انت مع إتفاق السلام؟
  • نعم، لأن الحرب وسيلة للدفاع أو لتحقيق أمر ميداني ما وليست غاية. اجاب المشير الجمسي.
  • وماذا يقول أحمد اسماعيل علي؟ سأل أوزوريس؟
  • كان يثق فينا وفي قدراتنا ثقة تامة. كان صاحب القرار السياسي، وكنا منفذيه عسكريا بروح الثقة نفسها فيه، لدرجة إنه لم تتحرك حتى منصة صواريخ واحدة سوى بإمرة القيادة العسكرية. قال أحمد إسماعيل علي لأوزوريس.
  • كل الذين صفقوا ممتنون لكما لأنكما قدتَما حرب أكتوبر، وهناك من لا يعلم أنك تكتمت على بدايات إصابتك بسرطان قاتل. قال أوزوريس.
  • والمصادفة الاخرى ان السادات أوزوريس قد اختلط دمه ببوله اثناء هذه الحرب، لكن التحاليل أثبتت ان الامر قد حدث بسبب توتر عصبي بالغ الشدة وليس بسبب سرطان. قال أحمد إسماعيل علي.
  • ورغم ذلك يقول بعضهم ان حرب أكتوبر كانت مسرحية مُتفق عليها. إذا كان ذلك كذلك فلماذا حدث ذلك للسادات أوزوريس؟ سأل عباس العقاد.
  • انا التي عانيت عذاباته وقلقه وهواجسه وكوابيسه بعيدا عن الكاميرات، ورأيت ثقل الاحمال على كتفيه وعذاب همومها في عقله، بينما رأى الناس صورته ك"معجباني" بنفسه كما قال نجيب محفوظ في احد رواياته. على فكرة، هو لم يكن معجبا بنفسه، بقدر ما كان فخورا برئاسته لمصر. قالت جيهان رؤوف/السادات من مجلسها.
  • مداخلتان مقبولتان. قال أوزوريس.
  • طه حسين. نادي حورس.

تقدم طه حسين من منصة القضاة الإلهيين وقال:

  • لقد تخطى أنور السادات جذور معتقدات الاسلام في الصراع مع اليهود، لكنه سمح لرجال الدين في الوقت نفسه بالتدخل لرسم خريطة مصر الثقافية. هذه المشكلة عانيت شخصيا منها ولم يدخلني قاض مستنيرإلى السجن. لماذا بعد كل هذه السنوات وضُعت مصر مرة ثانية في الدائرة نفسها؟
  • هل تعتقد أن أنور السادات وحده يتحمل مسؤولية هذا الامر؟ سأل أوزوريس.
  • لا أعتقد. هناك عوامل كثيرة دولية ايضا، أغربها تأييد الغرب المستنير لتيارات عفى عليها الزمن ولا يتعاطف معها حتى معظم المسلمين.

نيلسون مانديلا. نادى حورس، ووقف ماديبا؛ "الحكيم" بلغة قبيلته الكوزا التي اطلقت عليه هذه الصفة محبة، امام منصة القضاة الإلهيين وقال:

  • فاوضت من سجني سنتين منفردا بدون علم رفاق دربي، لأن خياراتهم ضاقت حتى بالنسبة للحياة نفسها. فاوضتُ فريديرك دي كليرك بإرادة ونية ورغبة صادقة، وكان هو كذلك. ما أهلنا للوصول إلى حلول، والحصول على جائزة نوبل للسلام مناصفة سنة 1993.
  • ولماذا اخترت طريق الكتمان للتفاوض؟ سأله أوزوريس.
  • مجرد إختلاف في المزاج والاداء بين من احبط اليأس قلبه وبين صاحب الامل.
  • وما الدرس المستخلص في قضيتنا، طلب الإلتماس، من سجنك وكفاحك ومفاوضاتك؟
  • إذا اردت صنع سلام مع عدوك، يجب ان تتفاوض معه ليصبح شريكك لاحقا.
  • وكيف تساميت فوق غضبك وآلامك لتتفاوض مع من أسالوا دم شعبك؟
  • مارستُ التسامح، رغم إنني لا استطيع النسيان!
  • وبالنسبة للقضية الفلسطينية؟
  • النية والرغبة والارادة غير متوفريّن لدى الطرفيّن المتنازعيّن. لذلك بدأت شهادتي عن نفسي لأشرح بشكل غير مباشر عقبات حلول هذه الأزمة.
  • وما يخص السادات أوزوريس في هذه المشكلة؟
  • عمله حكيم وشجاع، كما لم تكن له إرتباطات هامشية تشلّ قراره. واجه خصومه وجها لوجه فواجهوه، ومن ثمة إلتزم الجميع بما وقعوا، بعد ممارسة النية الحسنة والارادة الطيبة والرغبة الصادقة.

موهنداس كرمشاند غاندي. نادى حورس.

 تقدم المهاتما؛ الروح العظيمة باللغة السنسكريتية، إلى منصة القضاة الإلهيين فقال له أوزوريس: اسست ما يُعرف سياسيا بالمقاومة السلمية.

  • ومفاصل عملها الشجاعة والحقيقة واللاعنف. قال المهاتما.
  • ما جعله أحد أهم قديسي المحبة ودعاة السلام في العالم. قال سلامة موسى من مجلسه، بينما المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي بجانبه يومىء برأسه موافقا.
  • مداخلة مقبولة. وهل ترى تشابها بينك وبين السادات أوزوريس؟ سأل أوزوريس.
  • كانت ادواتي الصيام والمقاطعة والعصيان المدني لاستقلال الهند، بينما إستعمل هو التفاوض المباشر والحوار لاسترداد جزء محتل من وطنه. وسائلنا مختلفة لكن جوهر فلسفة اللاعنف لم تتغير. وأكرر في هذه المناسبة ان ثورة 1919 المصرية أنبتت في ضميري وعقلي فكرة العصيان المدني، لتكون فعلا ملح الارض الذي لا يفسد باساليب سماسرة الازمات، ضد من يحتل بلدي.
  • ما الذي يحيي فعلا اللاعنف ويمهد الطريق للتحرر أو للسلام؟ سأله أوزوريس.
  • وجود الضمير الوطني لدى الطرفين وإرادتهما الصادقة للوصول إلى حل.
  • وما تقييمك لما فعله السادات أوزوريس؟ سأله أوزوريس.
  • لم يخف ان تقوده أساليبه إلى الموت، فحقق باللاعنف والمفاوضة السلام لبلاده وإستعاد اراضيه المحتلة. طوبى له بسبب زرع فكرة السلام، والرحمة له لأنه رحم الشعوب من ويلات القتال و......

 مزق صدى كلام غاندي في قلوب الحضور بالقاعة الإلهية ضوضاء وأصوات نافرة، ووقع خطوات سريعة للغاية تتجه نحو منصة الحكام الإلهيين الكبار، وبدا ثلاثة رجال كأنهم يطلقون الرصاص من رشاشاتهم ويلقون قنابل يدوية، بمجرد ان وصلوا إلى منتصف الطريق ما بين باب القاعة السماوية ومنصة الآلهة، ولم يحرك أوزوريس سوى عينيه إستياءً، بينما وقف الالهة الاخرون والشهود والحضور من مفاجأة ما يحدث، وهتف غاندي الذي لم يتحرك من امام منصة القضاة: يا إلهي.. يا إلهي! واندفعت الإلهة ماعت نحو السادات أوزوريس، الذي وقف وقال: مش معقول! لتحميه بجسدها الازلي من الراكضين نحوه بعزم وحقد، في الوقت الذي إندفع فيه حرس القاعة المقدسة الذين كانوا يسرعون وراء المهاجمين منذ لحظة دخولهم وقيدوهم، وساقوهم أمام الإله أوزوريس، بينما هم يتوعدون السادات أوزوريس بالموت!

  • هل تعتقدون انكم قادرين على أذى الخالدين؟ سأل اوزوريس المهاجمين الواقفين امامه مذهولين لأن

احدا لم يمت ولم تُدمر القاعة بفعل رصاصهم وقنابلهم.

  • أنت مع هؤلاء الكفار في دار الفناء نفسها. رفع خالد الاسلامبولي عقيرته وقبضته مهددا.
  • واهمٌ كبيرٌ. تم ما حدث في شهر آبة* سنة 1981، لأن من استشهدوا كانت ساعتهم قد جاءت. ولم يُوذ الباقون ولم تُقوّض الدولة، لأن منيتهم وساعة مصر لم تحن بعد. عطلت الاقدار قنابلكم ورشاشك أنت بالذات!
  • انت الطاغوت نفسه. صرخ الاسلامبولي.
  • كل ما فعلتوه هنا كان مجرد أوهام موجودة في عقولكم، حتى أسلحتكم وقنابلكم. لقد رأى الحاضرون نواياكم مجسدة. هذا كل ما حدث! الخالدون وقاعة الخلود يستحيل أن يحدث لهم

*أبة هو شهر أكتوبر/تشرين الاول في اللغة الهيروغليفية التي ورثتها المسيحية المصرية وحورت الكلمة إلى بابة شيء، أمّا نفوس الاحياء وأرواح العابرين منهم فهم في حمايتنا من الشر والإهانة.

  • لكن.. قال الاسلامبولي وهو ينظر إلى كفيّه وايادي زميليه الخاوية.
  • إصمت. قال الإله أوزوريس. ثم إلتفت إلى تحوت كاتب الآلهة صاحب الكتاب الجامع في يده وسأل: ألم يكونوا أربعة أمام منصة السادات؟
  • هذّب عبور الموت روح حسين عباس، أيها المبجل!
  • ولم يزل الاسلامبولي وعطا طايل وعبد الحميد عبد السلام عبيد نوبات غضبهم الترابية!
  • وصلت رهافة حسّ شعبنا الخلقي إلى عدم إستنكار القتل والسرقة والزنى والكذب فحسب، بل إعتبار السعي وراء الانثى لإغوائها خطيئة، والتعالي على الآخرين خطيئة، والنميمة خطيئة، وإستراق السمع واختلاس النظرات خطيئة. تخلص شعبنا منذ زمن مبكر من طابع الدين البدائي، ومضوا نحو التوحيد الإلهي وأرقى التصورات العقلية في ما يتعلق بطبيعة الإله الخالق وعلاقته بالمخلوقات والثواب والعقاب وما بعد الموت، حيث يُفترض ان يسود العدل في حقول السلام. قالت الإلهة ماعت.
  • من أجل ذلك نحن هنا، لأن المسألة أبعد من السياسية وأعمق من اختلاف الاديان الابراهيمية التي ورثتنا، كما ورثت ثقافات ما بين النهرين. ويبقى السؤال الآن بعد الذي حدث: كيف تدهور ذوق وثقافة شعبنا لهذه المستويات، وكيف تدهور حس المنتقلين إلى الظهور في السماء لطلب الانتقام، بدلا من العيش بسعادة بدون ألم أو فراق أو اعداء! أو حتى الندم على ما بدر منهم في الحياة الفانية. قالت الإلهة إيزيس.
  • هذا صحيح. هل هؤلاء احفادنا؟ قال تحوت.
  • خذوا الواهمين الاشرار إلى مقر التافهين. قال أوزوريس للحرس الذين ساقوهم فخرجوا وهم يتوعدونه!

أبكار السقاف. نادى حورس بعد خروج المجرمين الذين تطاولوا حتى على آلهة مصر.

  • أيها المبجل أوزوريس، لا شك أن هذا الرجل داعية سلام، لكنه مصاب بانفصام الشخصية مثله مثل أي مسلم يعمل بالسياسة. المرض عام. المرض أدى إلى إغتياله على الارض وما حدث هنا منذ قليل.
  • أوضحي أكثر. قال أوزوريس لها.
  • الاسلام دعوة سياسية مغلفة بإطار ديني. هذا ما فهمته قريش منذ بدايات دعوة محمد ورفضته عندما علمت نيته برفض التعددية الدينية التي كانت في جزيرة العرب. كان حكماء قريش أصحاب رؤيا ثاقبة، لكن الحروب وقطع الطرق واستقطاب الشباب لربح الغنائم، جعلت قريش تتضعضع بعد عشرين سنة من مقاومة محمد وأياته التي أيدت دائما ما فعل سياسياً وعسكرياً حتى على صعيد زيجاته.
  • وماذا بشأن السادات؟ سألها أوزوريس.
  • من حق أي إنسان السعي لرفعة معتقده، وهذا ما فعله السادات بتسمية حرب أكتوبر بحرب رمضان، واطلاق المتأسلمين من السجون وترويج فكرة الامان للهاربين منهم بالعودة إلى مصر، علاوة على قوله على المنابر أن المسلمين أصبحوا القوة السادسة في العالم بعد إنتصار أكتوبر، والإيعاز للإعلام باطلاق الرئيس المؤمن عليه، وتشجيع الاخوان المسلمين على الاستيلاء على مفاصل الدولة وأخطرها الجامعات والمدارس والثقافة.
  • ما المشكلة من ثمة إذا كان الامر حقاً كما تقولين؟ سألها أوزوريس.
  • أوقع نفسه أولا ثم مصر في المحظور، وعندما أحس بخطورة ما يفعله على الدولة ونظام الحكم، وربما أحس بانفصام الشخصية كونه في الوقت التي يسخر فيه من حكم آيات إيران الديني ويتهم نظام الاسد بأنه موجود لدعم حكم الخوميني الطائفي البغيض في المنطقة، يمهد بما لا لُبس فيه بإنشاء دولة دينية طائفية بغيضة في مصر.
  • وماذا بعد؟ سألها أوزوريس.
  • قال قولته المشهورة "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين" ظناً منه أن هذه العبارة ستحل المشكلة، علاوة على التعامل أمنياً مع رؤوس الفتنة. هذا القول يعتبر هرطقة دينية عند الجهاديين ومن لا يعترفون بجهود الانسانية في خلق مفهوم الدولة والمواطنة والمساواة والمحاكم المدنية.

 كانت نهايته المفجعة متوقعة حتى منه شخصيا. ورغم ما حدث تعامى من جاء بعده عن الخطر، إلى

 أن انتهزوا فرصة ثورة شعبية حقيقية، ووقفوا له في الميدان حتى أجبروه على الاستقالة، بعدما تعذرعليهم إغتياله.

  • هل هذا كل ما تريدين قوله؟
  • الوقائع والعلمانية سينتصرون في نهاية المطاف بواسطة الانترنت.

انطلقت في ارجاء القاعة الإلهية جملة بصوت عال جدا من وفاء سلطان:

  • يسلم هالتمّ يا أخت الرجال. ما بقى عندي شو قوله. هيد حكي متنورين. منشان هيك زربوكي بالبيت لحتى متّي.
  • مداخلة مقبولة. قال أوزوريس وهو يبتسم.

نجيب محفوظ. قال حورس بصوت جهوري، فتقدم نجيب محفوظ وقال:

  • إذا كان المسلمون خائفين قبل إتفاقات السلام وبعدها من التفاعل مع اليهود بحجة تصدير افكارهم إلى الدول العربية، فكيف سيتفاعلون مع هذه الدولة في عصر اصبحت الافكار فيه مشاعة على الانترنت وليس في الكتب؟ وما قيمة حضارات دولهم وقوة مناعتها امام افكار اخرى؟ وهل يظل الدين هو وجهة النظر الوحيدة في التعامل مع الآخر؟ لقد دقّ السادات أوزوريس على باب مختلف للتعامل مع إسرائيل، لكن مع الاسف ظل عبوره موسوماً بجواز سفر ديني من الاطراف كافة.
  • ما تقييمك لفترة حكم السادات أوزوريس؟
  • أيدته مع معظم مفكري مصر حربا وسلما، وانا شخصياً مع إتفاق السلام لأنه خلق واقعية إنسانية جديدة للتعامل مع إسرائيل بعيدا عن شعارات جماهيرية مستحيلة ترددها الانظمة العربية.
  • كان الاستاذ أنيس، صاحب العوّامة، في "ثرثرة فوق النيل" يهوى الجلوس على المقاهي، ويُصادق ويُزار في بيته.
  • صحيح تماما. وكان يتعاطى الكيف أيضا. قال نجيب محفوظ وهو يبتسم إبتسامة خفيفة.
  • ماذا حّل بالاستاذ أنيس حسب ما ترى؟
  • إنزوى إجتماعيا وتقوقع ثقافيا وإنكفأ على نفسه سياسيا. لم يعد كما كان من قبل.

قال أوزوريس: بعد كل هذه الشهادات، رأينا ان أنور السادات أوزوريس فعل الصواب لمصلحة مصر، وركن إلى نداء قلبه ليتعامل مع إٍسرائيل وليس إلى مصلحة وجوده كرئيس. خاطب الضمائر عندما إختار ودفع عن سابق تصور وتصميم خصومه إلى السلام، ليبعد شبح الحروب والاحقاد غير المثمرة عن المنطقة، لأنه هو نفسه عرف معنى الدم والندم والخسارة الانسانية. ترّفع عن ذنوبه ايام مراهقته السياسية، وإنتهى داعية سلام كونيا.

رغم أن رجال السياسة ملوثون بوجه عام، ويستحيل ان يرضوا جميع الناس لأنهم خصوم في معظم الاحوال، إستندنا إلى مجمل الشهادات وميزان الريشة والقلب، ورجحنّا حُسن نوايا السادات أوزوريس تجاه مصر، والانسانية بشكل عام. أمّا شأن احداث الفتن التي حدثت في عهده، فرأينا إنه ورثها كما هي، ويتحمل وزرها مع غيره ومسؤولية تسويف الحل، ومن ثمة لا يستحق العقاب منفردا. قال أوزوريس.

دوّن ايها الكاتب تحوت: بناء على ما تقدم قررنا ان يكون مصير أنور السادات أوزوريس الابدي حقول السلام، فالمنطقة برمتها بحاجة ماسة إلى عصر تنوير.

  • التحية لكم أيها الآلهة الذين يقطنون قاعة ماعت، قاعة الحق والصدق والعدل، الذين لا يلتصق باجسادهم شر ويعيشون على الحق والعدل ويتغذون على العدل والحق، في وجود حورس الذي يسكن في قرصه المقدس. خلصتوني من بعبع الذي يتغذى على احشاء العظماء في يوم المحاكمة العظيم، وضمنتم لي ان احضر إليكم لأني لم ارتكب الذنوب، ولم أفعل خطايا، ولم أقم بالشر، ولم أتهم إنسان زيفا. لأجل هذا لم تدعوا ضرر يحيق بي. قال أنور السادات أوزوريس للقضاة.
  • لتنصرف النفوس بسلام إلى دنياها، وتعود الارواح إلى الاماكن التي جاءت منها. رفعت الجلسة. قال الإله أوزوريس.
  • هل يُعقل ان تكون حقول السلام مصير السادات أوزوريس؟! همس أحدهم لنفسه بصوت مسموع مستنكرا حُكم أوزوريس المُبرم.
  • انت ما زلت تنتمي إلى عالم كل ما يُقال فيه رأيٌ وليس حقيقة، وما تراه فيه صُوراً ثلاثية الابعاد وليست جوهرا. همس الامبراطور الفيلسوف ماركوس أوريليوس الجالس بجواره له.
  • انا اتحدث عن “هنا” وليس “عالمي”!
  • الامور "هنا" توزن بما في الضمائر، وليس كما تراها العيون أو تسمعها الاذان مما يقوله أو يتقوله الناس!
  • والتاريخ مجموعة أكاذيب متفق عليها. قال نابليون.

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment