الحضارة وليدة الأهتمام - بيروت تايمز

03/17/2023 - 22:24 PM

Bt adv

 

 

"الأهتمام هو الحياة هو النجاة هو الشيء الذي يُنتظر منك، لاتجعل اهتمامك – أو عدمه –

ردة فعلٍ، وعندما تسوء الأمور يوماً اهجر كل شيء الإ الاهتمام"

 

د. فهيم عبدالإله الشايع *

 

منذُ القدم يحاول الإنسان العيش على هذه الأرض بأفضل الوسائل؛ حتى تكون حياته أسهل، جرب وسائل متعددة وطرقاً حتى وصل بنا الحال إلى ما نحن عليه، وما زال في تغيير مستمر واختبار لهذه الوسائل والأنماط، وما سببه الآخر على الصعيد الفردي أو صعيد الجماعة كان مدعاة للنقاش والتفكير طوال المدد الماضية، لهذا نجد تبايناً وإن صح القول – ولم تأخذك المعاني إلى أبعد مما نقصد - تطرفاً في النظرة إلى الآخر في حياتتنا، فعندما حاول الفلاسفة تعريف الجحيم نظروا إليها من زاوية الآخر في حياتنا.

فقد وجد الفيلسوف جون سارتر[1] ( أنَّ الجحيم هو الآخر) وما هي إلا ترجمة لنظرته عن دور الآخر في حياتنا، إذ يجد أن وجود الآخر ضروري من أجل وجود الأنا وهو وجود ذاتنا، ومن هنا يعتبر سارتر أنَّ الآخر عنصر مكون للأنا و لا غنى له عنه في وجوده ، والعلاقة الموجودة بينهما هي علاقة خارجية و انفصالية، وجاء في المعنى المعاكس للفيسلوف لوك ماريون[2] ( الجحيم هو غياب الآخرين)، قد يلحظ القارئ الكريم اختلاف وجهات النظر فيما يخص الآخر، بين القولين، والاختلاف لا يهمنا بقدر ما يهمنا دور الآخر في حياتنا فهو دور مهم، تصل أهميته إلى المساس بالذات فلولا الآخر ما وجدنا على هذه الكيفية، أي بمعنى ثاني لا يُمكننا العيش متباعدين، من جهة أخرى يُمكن النظر إلى القولين من زواية مختلفة، فنحن ننظر وكأن معنى الجحيم من المسلمات، إلَّا أنَّ الجحيم – في الواقع - هو أمر شخصي مختلف باختلاف الظروف الشخصية والمعتقدات والمحيط، فما يُعد جحيماً في مكان وزمان معين، قد يُمثل في مكان أو زمان آخر - بالنسبة إلى الشخص نفسه أو أشخاص آخرين – الرفاهية والسعادة والنعيم.

الآلوان تتبادل الأدوار وهي ضرورية الوجود بعضها لبعض، فأنَّا تعلمتُ على لوحٍ (سبورة) أسود كان متشبع في البياض وكأنَّه يتظاهر ضد لونه، وعلى عكس كثيرٍ من الأمور عندما كان يبدو أسود كان كأنَّه يبعث رسالة للراحة لنا - وإن كانت مؤقتة – ولم يكن اللوح بإمكانه أن يقوم بوظيفته من خلال لونه فقط، بل إذا أراد البوح أو النطق – إن صح القول – ستسعفه أغلب الألوان إلَّا لونه، فلن يُفهم منه شيئٌ إذا تحدث به، فاللوح يتكلم بلون الطباشير الأبيض، لطالما أعتقدتُ أنَّ هذه الأشياء ثوابت وكأنها جيل عن جيل في توارث، لكن الحال تبدل بل انقلب، فجاءنا لوح ابيض، وأقلام سوداء، ها هي الالوان تغير وظائفها، لا أعلم متى وأين سيتبادلان مرة أخرى؟

تخيل أنَّ اللوح الأبيض عندما يُريد أن يخرج ما بداخله، لن نفهمه بأوضح صورة إلَّا عندما يكون أسود، ولا يمثل الطُمَأنينة والراحة – كما نظن - على الدوام فاعتي وسائل التعذيب يُستعمل فيها اللون الأبيض، وكما هي المُطلقة واضحة وضوح اليقين والنسبية يتداخلها الشك، فالألوان تستعمل المطلق للوضوح، ومطلق الأسود هو الأبيض، الآخر في حياتنا يشبه علاقة الألوان ببعضها، علاقة ضرورية وجودية متغيّرة مهما بدت كلاسيكية وبديهية.

الآخر فينا هو منبت هذه الحياة وسر جاذبيتها، فمنه بدأ كل شيء له معنى، وعلى باب أطلاله سنشهد النهاية - إذا كانت هناك نهاية -، لطالما كان اكتشاف النار حدثاً مهماً على تتبع أولى الحضارات الإنسانية القديمة، ومن بعدها الزراعة والكتابة والتجارة كل هذا كان وما يزال أثاراً تدل على الحضارات الإنسانية، لكن هذه لم تكن أولى بزوغ الحضارات؛ لأنَّها ببساطة إن لم تكن حاجات جماعية فهي اكتشافات جماعية، إي أنَّ الإنسان كان يعيش في جماعات قبل هذه الاكتشافات، وفي اكتشاف بعد تحليل هيكل عظمي لإنسان قديم أشار حمضها النووي إلى تعرض صاحبها إلى كسرٍ في عظم الفخذ ، تقول العالمة مارغريت ميد[3] إنَّ هذه اللحظة هي التي لها دلالة على بدء الحضارة فوجود شخص نجى بعد أن كُسر عظم فخذه في حقبة زمنية كان الإنسانُ يعيش حياة مشابهة لحياة الحيوانات، معتمداً على صيده لبعض الحيوانات، مختفياً ومتحصناً في الكهوف يخشى الافتراس، له دلالة على أنَّ هناك شخص آخر وقف بجانبه، ونقله إلى مكان آمن، واحضر له طعامه حتى شفي، من هنا يُمكن الحديث عن بدء الحضارة الإنسانية.

وإذا ما تمعنا أكثر في هذه اللحظة التاريخية المشرفة في مسيرة الإنسان لوجدنا أنَّ الحضارة ابتدأت باعلان من الآخر أنَّه مهتم بنا، مهتم بذاتنا؛ فإذا كان الآخر هو محدث الحضارة، فالأهتمام هو فعل الحضارة، وأي اهتمام أقصد، ذاك الاهتمام من دون مقابل، لأنَّه في قصتنا آنفة الذكر كان الأهتمام قبل أن يخترع مصطلح ومعنى وقيمة المقابل، بل على العكس تصور أنَّ الإنسان كان في كثير من الأحيان ما يصطاده لا يكفيه، ومن المؤكد وكأني أرى ذلك المشهد، أنَّ الآخر أقتسم طعامه مع الشخص المصاب، الأهتمام لم يكن مشروطاً بشيء، لم يُكن أهتماماً لتحسين صورته في مواقع التواصل، ولا أهتمام لأجل الانتخابات، ولا اهتماماً للتعنصر أياً كان شكله، ولا أهتماماً لأنك أشقر الشعر أو أسود، ولا أهتماماً لأنك تسكن الغابة أو الأدغال، ولا أهتماماً بمقابل وفق سياق أهتم بي حتى اهتم بك، كان اهتمامٌ من أجل الأهتمام فقط، للأسف لسنا محظوظين كفاية في هذا العصر، فقد تكون أسوأ نسخ الأهتمام هي التي وصلتنا، لأعرف إذا كان الأهتمام يسير بالوجةِ الخطأ، فإني أجد أفضل صورة ونسخة للأهتمام هي ذاك الشخص الذي لازم إنساناً مصاباً دون أن يأطر أهتمامه تحت شرط أو مسمى، وكأنَّ النسخ الحديثة من الأهتمام والتي نعرفها الآن هي أقل جودة من سابقها، ولا غرابة إذا علمنا أنَّ الحضارة ابتدأت بالأهتمام فمن المؤكد أن تنتهي الحضارة عندما ينطفى أهتمام الآخر بنا.

 

*خبير قانون معتمد

دراسات خاصة في الفلسفة

باحث في مقارنة الأديان

 

1 ) جان-بول شارل ايمارد سارتر 1905) باريس (1980 فيلسوف وروائي وكاتب مسرحي كاتب سيناريو وناقد أدبي وناشط سياسي فرنسي.درس الفلسفة في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، ومن أعماله الأدبية (( الوجود والعدم (1943)، والكتاب المختصر الوجودية مذهب إنساني (1945) أو نقد العقل الجدلي (1960) ، رواياته مثل الغثيان (1938)، والثلاثية طرق الحرية (1945). )) .

[2] ) جان-لوك ماريون ولد 1946، عالم في العقيدة وفيلسوف فرنسي .

[3] ) مارغريت ميد (1901 - 1978) هي عالمة أنثروبولوجيا ثقافية ظهرت حصلت على شهادة البكالوريوس من كلية برنارد في نيويورك ودرجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة كولومبيا. شغلت ميد منصب رئيس الجمعية الأمريكية للتقدم في العلوم.

 

 

 

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment