واشنطن - المحرر الثقافي
نظّم بيت الثقافة والفنون في واشنطن ندوة فكرية سَلّطت الضوء على التجارِب الأدبية والتحديات التي تواجه الأدباء العرب في المهجر، شارك فيها كُلا من الأديبة الليبية عائشة إدريس المغربي المقيمة في فرنسا، الأديبة اللبنانية مروة كريدية المقيمة في الولايات المتحدة، والأديب التونسي حكيم بن رمضان المقيم في ألمانيا.
سهيلة بورزق
وفي التقديم استهلت الأديبة الجزائرية سهيلة بورزق التي أدارت الندوة، الترحيب بالضيوف مع الاشارة إلى أهميّة حرية التعبير كمحور أساسي في العمل الابداعي قائلةً : "يحتاج الكاتب إلى مجالٍ واسعٍ من الحريةِ الفكريّة، حتى يُنتج أدبًا مختلفًا وحتى لا يتكرر النصّ بسبب قلة التجارِب ربما، وانعدام الاختلاف في الرؤية، ويحتاج أيضًا الى استقلاليةٍ كاملةٍ من الشعور بالذنب والخوف والتراجع، حتى يستطيع أن يتميّز كمبدِع، لذلك كانت الهجرة الى البلدان المفتوحة على الحريّة هي أكثر الأوطان المقصودة من طرف كلّ انسان يؤمن بحرية الفكر"
وأضافت :" إنّ أجمل ما يحصل لكاتبٍ مهاجرٍ هو تحفيز الذاكرة على كتابة أجمل النصوص بعيدًا عن شُرطة الآداب والدين والسياسة "
عائشة إدريس المغربي
أما الأديبة عائشة إدريس المغربي فقد تحدثّت عن تجربتها خلال خروجها وعائلتها من ليبيا عام 2014 بشكل مؤقت، مؤكدةً أنها هي منْ فكّر في الهجرة حينها وأضافت: "عرفت أننا لن نستطيع ان نستمر في العيش ( في ليبيا ) ليست فقط بسبب الحجر على الفكر وتحديد مسارات الكتابة، وإنما أيضا وصلت (التضييقات) إلى حالات التهديد والاختطاف". واعتبرت المغربي انّ الكتابة كانت هي المنقذ لها في الهجرة من الحالة النفسية السيئة التي انتابتها، حيث قالت : " كنت بحالة اكتئاب مزمن، ولم أرى أي افق أمامي ، ومنذ دخولي فرنسا في 2015 لم أنجو من ذلك إلا من خلال الكتابة. فشوكة الغربة والتجارب المؤلمة مغروزة في قلبي، لكن مع هذا لم أكتشف كميّة الفرح والسعادة إلا من خلال الكتابة حيث تنتابني مشاعر الحب والبهجة وكان لدي روح شابة راقصة. بدأت وأنا في أسوأ الظروف فأنجزت ثلاث كتب تحدثت فيها عن ليبيا فكانت روحية الأمل والفرح موجودة بشكل كبيرة جدًا "
مروة كريدية
أما الأديبة اللبنانية مروة كريدية المقيمة في الولايات المتحدة فقد أشارت إلى أنها اختبرت نوعين من الهجرة، حيث غادرت من مسقط رأسها بيروت إلى دبيّ حيث أقامت فيها قرابة عقدين، ثم انتقلت من دبي للعيش في الولايات المتحدة ، مشيرة إلى ان كِلا التجربتيْن مختلفتين جملة وتفصيلا ، وأن ذلك انعكس بشكل واضح على نوعية كتاباتها واصداراتها وأعمالها الأدبية.
وتناولت كريدية في المقدمة العوامل الثقافية والسياسية التي كانت تحيط بلبنان خلال طفولتها أواخر السبيعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حيث امتدت الحرب الأهلية خمسة عشر عامًا. مشيرةً إلى أنه على الرَّغم من النزوح المتكرر خلال تلك الفترة إلا أنّ انها هاجرت أواسط التسعينيات، أي بعد انتهاء الحرب وخلال مرحلة إعادة الإعمار، وأثناء الازدهار الاقتصادي حيث كانت تشهد البلاد أفقًا ورديًا. مؤكِّدَةً أنّ قرار هجرتها كان "ثقافيًّا " بامتياز، والسبب كما قالت أنها كانت "تقرأ ما بين السطور المآلات التي يُعاني منها الشعب اللبناني اليوم ". حيث انّ مرحلة إعادة البناء في لبنان وقتها، لم يواكبها نهوض دولة مدنية حقيقية، بل كانت قائمة على توزيع المغانم والحصص من المشروعات العمرانية و كافة مراكز الدولة ومؤسساتها على زعماء الميليشيات الطائفية، كما كان لا يمكن للإنسان العادي الحصول على اي وظيفة او منصب إلا عبر زعيم المذهب، اذ لا يكفي التفوق الدراسي والكفاءة العلمية للعمل في اي قطاعٍ من قطاعات الدولة، كون الوظائف كلها موزعة حَسَبَ "التقسيم المذهبي" الأمر الذي أدى إلى اضمحلال بنية المؤسسات الرسمية لمصلحة "زعماء الطوائف" ، و تقول كريدية غادرت لأني "رفضت أن أسبِّحَ بحمد الزعيم" وكنت أستشرف مستقبلا بائسًا جدًّا لشعب يهتف لزعاماته .
وأشارت الى ان هذا الشعور بالغبن وانعدام الفرص في بلدها الأصلي، اضافة الى ما خلّفته الحرب على نفسية الشعب اللبناني من أهوال فظيعة جعلته مشحونا بالكراهية والحقد، كلّ ذلك دفعها إلى دراسة اسباب العنف كما أحدث لديها نوع من الانقلاب الفكري من خلال إعادة النظر في كل المفاهيم متعارفة. لذلك فإن كُتبها التي أصدرتها خلال إقامتها في دبي اتسمت بالطابع الفكري والفلسفي والمقالات الأكاديمية، وتناولت من خلالها الأسباب المؤدية للعنف والبنى الايديولوجية التي تستخدمها السلطات السياسية لإبقاء الناس والشعوب تحت السيطرة، ودور المذهبية السياسية في انهيار الدول. كما طرحت نماذج من النضال اللاعنفي ودور الحقوق المدنية والعدالة في بناء الأنظمة السياسية .
واوضحت كريدية انّها واكبت النهوض العمراني والثقافي لدولة الإمارات، واصفة دبي بالأعجوبة الحضارية الرائعة التي احتضنت ثقافات الأرض وكانت جوهرة عالمنا العربي وعلّمتنا ان لا مستحيل ان وجدت الإرادة الصادقة، واضافت : لقد أفسحت لي اقامتي فيها التعرف إلى كبار الشعراء والفنانين والمثقفين والمفكرين على امتداد العالم التي كانت تستضيفهم في فعاليات فكرية رائعة.
الحكيم بن رمضان
أما الأديب التونسي الحكيم بن رمضان فقد اشار الى ضرورة تحديد المصطلحات مضيفا: "أن مصطلح أدب المهجر يحتاج الى توضيح لأنه وقع تعميمه وأن الشعب العربي يعاني من أزمة مصطلح رهيبة، فأدب المهجر كمصطلح يمكن ربطه فقط بشعراء المهجر ويمكن تعميمه على بعض الكتاب فقط .."
و أشار الى " ان تجرِبة الكتابة لا يمكن نعتها بأدب المهجر إلا حينما تتفاعل مع المجتمعات التي نزحت نحوها او هاجرت اليها، بمعنى ان يكون الإنسان المغترب قادر على الاجابة على الأسئلة... فالغرب سوف يطرح عليه اسئلة جوهرية عن الهُوِيَّة وعن الذات وعن القيم وعن الأخلاق وعن الدين"
مضيفا :" لا بُدّ للكاتب العربي ان يتحمّل مسؤوليته ويأخذ تلك الأسئلة على محمل الجدّ مع إعادة التفكير فيما افترض انّه فهمه .. " واعتبر ان الهجرة "تمنحنا تلك الفرصة السانحة والقوية والمهمة جدًّا في ان نطرح على انفسنا الأسئلة الصعبة، وان نعيد التفكير فيما كنّا نعتقد اننا فكّرنا فيه ، بالتالي فالكاتب عندما يعيش في الخارج، فإنها تكون تجرِبة إنسانية مهمة جدًا وراقية وصعبة أحيانا، ولكن فيها فرص لن يسنح الوطن للكاتب ان يعيشها وبالتالي فهي فرصة يجب استثمارها "
وعن حنين الادباء الى أوطانهم يقول بن رمضان " افترض أنّ أكبر مشكلة قد يقع فيها الكاتب العربي – في المهجر - حينما تكون كلّ اهتماماته نحو الحنين والشوق إلى وطنه ، وبالتالي تكون طاقته الذهنية موجَّهة نحو الماضي، لذلك فسوف يقع في (اسر) تلك الذكريات المجمدة او المحنَّطة " . مشيرًا الى ان الكتَّاب الغربيين الذين هاجروا من أوطانهم تعاملوا بطريقة تفكير مختلفة راديكاليًّا لأنهم كانوا يرون في تلك الرحلة فرصة للإكتشاف.
وأضاف أنَّ :" قيمة الهجرة بالنسبة للكاتب أوالفنان هي مشروطة باتجاه الطاقة النفسية التي سوف يستثمرها" فإن وُجِّهّت الطاقة نحو الماضي فتتحنط الذكريات وتتحنط المفاهيم، و إن وُجّهت نحو المستقبل فستكون الرحلة استثمار للقوة الفكرية لإعادة اكتشاف العالم والآخر.
عائشة المغربي
وفي معرض مداخلتها قالت الأديبة عائشة المغربي: " ان الكتابة هي تجربة خاصّة وذاتيّة جدًا، لذلك لا أضع سقفًا لتجارب الآخرين بالشروط التي أقترحها " وانّه لا يمكن وضع شمولية من الأفكار لاصطفاف التجربة الابداعية داخلها او مشروطية معينة ، و لا أشعر بنفسي موجودة داخل هذا الاطار. مع اتفاقي أن العيش في تجارب الماضي تسلب الروح الإبداعية " وأشارت أنه ينبغي ان نميّز بين الهجرة والاغتراب، فيمكن للكاتب ان يكون غريبًا في وطنه إذا تعرض للاضطهاد والضغوط ، كما أنّ الشعور بالأمان والحريّة هو أهم ما يقدّمه المهجر للأدباء .
بدورها أيّدت مروة كريدية ما ذهب إليه حكيم بن رمضان حول ضرورة أن يتناول الكاتب الأسئلة الجوهرية والوجودية وان يعيد التفكير في اللامفكر فيه، وان يعيش بانفتاح حقيقي على المجتمع الذي هاجر إليه .
و تقول في هذا السياق :" لقد تقبلتُ المجتمع الأميركي وانخرطت فيه وكانت فرصة رائعة لاكتشاف آدابه الجميلة وإغناء الذات "
و أكدّت أنها تناولت في كتاباتها لا سيما روايتها الأخيرة "على دروب الصفاء" الكثير من الأسئلة الوجودية ، وأرادت ان تفتح المجال للقارئ ان يعيد النظر في يقينياته بشكل عميق وكل ما يدور حوله من مفاهيم جوهرية كالهوية والوطن والدين ..
وعن الوطن تقول :" لقد تجاوزت مفهوم البُقع الجغرافية في الأوطان "متسائلة :"ما هو الوطن؟ هل هو مجرد حدود جغرافية وضعها الآخرون في غابر الزمان والمطلوب ممن عليها "الدفاع" عنها والموت لأجلها؟ مشيرة الى انه لا يمكن اختصار إنسانية المرء ببعد جغرافي او ديني او قبلي لم يختره وان قيمة الإنسان وحريَّته وكرامته اهم من "الأوطان".
و تساءلت أيضًا عن مفهوم الدين وما تقبلته البشريّة على انّها مسلمات ويقينيات دون ان يعيش الإنسان هذه التجربة الروحية العميقة مع هذا اللانهائي المطلق. مضيفة الى انّها تشارك قراءها بهذه الأسئلة وهي تنحو المنحى الانساني بل والكوني العام الذي يتقاطع مع كل البشر مؤكدة على ضرورة " إعمال الروح في الكتابة " والتركيز على المشتركات الانسانية بين أمم الأرض، وهو ما تكلّم به الحكماء على مرّ العصور" . وأكدت كريدية على أهمية رسالة الحرية التي توقظ الوعي، في مسعى لحضور انساني أكثر ايجابية في هذا الوجود، حيث تصبح الكتابة او الفن او أي عمل يقوم به المرء نابع من حضرة الجمال الصرف و إبداعا للروائع. فتتلاشى "الأنوية" في رحلة "الفناء" بقلب الكون .
الجدير ذكره أن هذه الندوة عُقِدت عبر تطبيق زووم ونُقلت بشكل مباشر عبر صفحات وسائل التواصل لبيت الثقافة والفنون في واشنطن .
Comments